تمثل مؤشرات سوق العمل أحد اهم المؤشرات الدالة على حالة الاقتصاد ومدى استقراره وهو في نفس الوقت أحد العوامل الأساسية الهامة للنمو الاقتصادي، فالتشغيل العالي يعني ميلا أكبر للاستهلاك ويعني أيضا في نفس الوقت عائدات ضريبية أكثر. وقد شهد سوق العمل في ألمانيا خلال العام 2022م، العديد من التطورات والتحولات الإيجابية التي ساهمت في الاستقرار النسبي للاقتصاد وقدرته على مواجهة حزم الازمات التي مرت بها ألمانيا والاتحاد الأوروبي ودول العالم المختلفة. الا انه ما يزال يواجه العديد من التحديات مثل تشغيل اللاجئين وزيادة الموظفين الأجانب وحل ازمة نقص العمالة وارتفاع عدد الوظائف الشاغرة.

أعلى مستوى لعدد العاملين في ألمانيا

سجل عدد العاملين والمشتغلين في ألمانيا في العام 2022م رقما قياسياً، حيث اظهر تقرير لمكتب الإحصاء الاتحادي (Destatis)، انه في الربع الأخير من عام 2022م، كان يعمل في ألمانيا حوالي 45.9 مليون شخص. وهو ما يمثل زيادة بنحو 258 ألف شخص مقارنة بالربع الذي سبق. اما بالمقارنة مع الربع الرابع من العام 2021م، فقد ارتفع عدد الأشخاص العاملين بمقدار 492 ألف شخص او ما نسبته 1.1 في المئة من اجمالي العاملين.

وساهم قطاع الخدمات بالنصيب الأكبر في زيادة عدد الأشخاص في التوظيف في الربع الرابع من عام 2022م، مقارنة بالربع نفسه من العام السابق، حيث ارتفع عدد العاملين في مختلف مجالات قطاع الخدمات بنحو 443 ألف شخص وبنسبة زيادة تبلغ 1.3 في المئة عن الربع نفسه من العام 2021م. وتم تسجيل أكبر زيادة مطلقة في التوظيف مرة أخرى في مقدمي الخدمات العامة وقطاع التعليم والصحة بزيادة في عدد الموظفين بحوالي 142 ألف شخص وبنسبة ارتفاع 1.2 في المئة. وسجلت ثاني أكبر زيادة مطلقة في الربع الرابع من عام 2022م، في قطاع البيع بالتجزئة والنقل والضيافة مع أكثر من 121 ألف شخص وبنسبة زيادة 2 في المئة. يليه قطاع مزودو خدمات الأعمال، بما في ذلك شركات التوظيف وتوفير العمالة، بزيادة 108 ألف موظف ونسبة 1.7 في المئة. في مجال المعلومات والاتصالات، كان النمو في التوظيف أكثر ديناميكية مع 69 ألف موظف جديد وبزيادة بنسبة 4.7 في المئة. في حالة مقدمي الخدمات المالية والتأمينية، استمر الاتجاه التنازلي الذي كان واضحًا لسنوات حيث تراجع عدد الموظفين في هذا المجال بحوالي 12 ألف شخص وبنسبة (-1.1 في المئة).

في الصناعة التحويلية (باستثناء البناء)، استمر عدد الأشخاص العاملين في الارتفاع بشكل طفيف في الربع الرابع من عام 2022م، اذ بلغ عدد الموظفين الجدد في هذا القطاع 35 ألف موظف وبزيادة بنسبة 0.4 في المئة مقارنة بالعام السابق. كما تم تسجيل ارتفاع في الوظائف مرة أخرى في قطاع البناء بزيادة بلغت 14 ألف شخص وبنسبة 0.5 في المئة. في قطاع الزراعة والغابات ومصايد الأسماك كان هناك في الربع الرابع من العام 2022م، عدد مماثل من الموظفين لعددهم في الربع الرابع من عام 2021م. وهذه هي المرة الأولى منذ الربع الثاني من عام 2014م، التي لم يشهد فيها هذا القطاع مزيدًا من الانخفاض في عدد الموظفين.

في الربع الرابع من عام 2022م، ساهم التطور الإيجابي وزيادة عدد الوظائف الخاضعة لمساهمات الضمان الاجتماعي مساهمة كبيرة في زيادة التوظيف بنسبة 1.1 في المئة مقارنة بالربع المماثل من العام السابق. كما كانت هناك زيادة طفيفة في عدد الموظفين الذين لديهم وظائف هامشية بشكل حصري (الموظفون ذوو الأجور المنخفضة والموظفون لفترات قصيرة).

البطالة في ألمانيا العام 2022م

على الرغم من أثار الحرب في أوكرانيا وارتفاع الأسعار، وحالة عدم اليقين، الى جانب تدفق اللاجئين من أوكرانيا الى ألمانيا قد تركت بصماتها على سوق العمل الألماني الا ان متوسط البطالة خلال العام 2022م، قد انخفض بالمقارنة مع العام السابق 2021م. فوفقاً لبيانات وكالة العمل الاتحادية انخفض عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا في مجمل العام 2022م، بمقدار 195 ألف شخص، ليصل متوسط العدد الإجمالي للعاطلين إلى 2418000 شخص. ويرجع هذا الانخفاض في عدد العاطلين الى التطورات الإيجابية التي شهدها الاقتصاد الألماني خلال النصف الأول من العام 2022م، خصوصا بعد الغاء قيود كورونا نهاية شهر مارس، وهو ما ادى الى استعادة قطاعات اقتصادية أساسية كثيفة العمالة مثل قطاع المطاعم والسياحة لكامل نشاطها الاقتصادي، الا ان تسجيل اللاجئين الأوكرانيين في وكالة العمل الاتحادية كعاطلين عن العمل وذلك بداية من النصف الثاني من العام قد أدى الى ابطأ هذا التعافي في سوق العمل.

بالإضافة الى ذلك أدى تمديد الحكومة الاتحادية للعمل ببرنامج العمل بدوام مختصر والذي يستهدف دفع تعويضات للعمال في الشركات التي ينخفض انتاجها او تتوقف عن الإنتاج، الى دعم سوق العمل ومنع حدوث تسريح إضافي للعمال والموظفين في العام 2022م. كما كان هو الحال في عامي انتشار جائحة كورونا 2020م و2021م. وبحسب الإحصائيات الصادرة عن وكالة العمل الاتحادية بلغ متوسط العدد السنوي للمسجلين في برنامج العمل بدوام مختصر في عام 2022م، حوالي 430 ألفًا بعد ان كان هذا العدد قد بلغ 1.85 مليون موظف وعامل في عام 2021م.

أثر اللاجئين الأوكرانيين على سوق العمل

شهدت ألمانيا خلال العام 2022م ونتيجة للحرب الروسية الأوكرانية موجة نزوح كبيرة من أوكرانيا حيث بلغ عدد اللاجئين المسجلين نحو 1.1 مليون لاجئ. هذا العدد الكبير من اللاجئين من أوكرانيا كان له أثر على سوق العمل والذي يظهر في البداية سلبياً من حيث تسببه في رفع معدل البطالة بعد ان بدأ تسجيل اللاجئين من منتصف العام لدى وكالة العمل الاتحادية كعاطلين عن العمل، الا ان العديد من الخبراء والمختصين يشيرون الى إمكانية الاستفادة من هؤلاء اللاجئين، خصوصا المؤهلين منهم، في معالجة النقص في العمالة والعمالة الماهرة التي يعاني منها سوق العمل في ألمانيا. فبحسب Daniel Terzenbach عضو مجلس إدارة مكتب العمل الاتحادي، تم منذ بداية حرب أوكرانيا توظيف 65 ألف اوكراني واوكرانية، هذا بالإضافة استيعاب حوالي 21 ألف اوكراني واوكرانية أخرين في وظائف صغيرة. واعتبر Terzenbach ان «سوق العمل في ألمانيا قادر على استيعاب المزيد من اللاجئين».

وأضاف عضو مجلس الإدارة أن من المتوقع أن يزداد عدد الموظفين والعمال من أوكرانيا في سوق العمل الألماني بشكل كبير في الأسابيع والأشهر المقبلة، وذلك بسبب وجود العديد من اللاجئين من أوكرانيا الذين يدرسون حالياً في دورات الاندماج ودورات اللغة الألمانية، والذين سيصبحون في الربع الثاني من العام الحالي وبعد اكمالهم للدورات المختلفة جاهزين لدخول سوق العمل. وقال Terzenbach «ان مكتب العمل قد سعي بوعي كامل للاستفادة من الأشخاص المؤهلين وذوي الشهادات، لهذا تم تجنب تشغيل هؤلاء في الاعمال المساعدة والتي لا تحتاج الى مهارات او مؤهلات مهنية ولكن توظيفهم وفقاً لإمكاناتهم والشهادات والخبرات التي يمتلكونها». ويضيف عضو مجلس إدارة مكتب العمل الاتحادي ان الخبرة المتأتية من الموجة السابقة للاجئين بين عامي 2014-2016م، والهدف الذي وضع في ذلك الوقت لتشغيل نصف اللاجئين وإيجاد وظائف لهم خلال خمس الى ست سنوات قد نجح، على الرغم من الصعوبات التي واجهت تحقيق هذا الهدف خلال جائحة كورونا.

ويشدد Terzenbach على ان الفرصة الان أفضل بكثير لتوظيف نسبة أعلى من اللاجئين الاوكرانيين وادماجهم في سوق العمل وان الجميع تقريبا من هؤلاء لديه فرصه في إيجاد عمل مناسب. خصوصا ان جزءا كبيرا منهم اظهر رغبة واستعدادا للبقاء في ألمانيا وتعلم اللغة الألمانية، بالإضافة الى ان المزيد من الرجال في سن العمل يأتون من أوكرانيا الى ألمانيا بالرغم من الزامية الخدمة العسكرية في بلادهم.

العمال الأجانب في ألمانيا

اظهر تقرير صادر عن مكتب الإحصاء الاتحادي (Destatis) ان عدد العمال الأجانب في ألمانيا والقادمين من دول الاتحاد الأوروبي الى ألمانيا بغرض العمل قد وصل في نهاية العام 2021م، الى 1.65 مليون شخص، ويمثل هذا العدد زيادة بنسبة 19 في المئة مقارنة بنهاية العام 2017م، عندما تم جمع هذه البيانات لأول مرة. كما ان معظم العمال الذين هاجروا من دول الاتحاد الأوروبي كان لديهم بالفعل عرض عمل دائم عندما أتوا إلى ألمانيا. وقد جاء ما يقرب من380 ألف (23 في المئة) من بولندا، تليها رومانيا بحوالي 271 ألف عامل وبنسبة 16 في المئة من العمال المهاجرين وإيطاليا بما يقرب من 208 ألف وبنسبة 13 في المئة. الى جانب كرواتيا (131 ألف عامل)، بلغاريا (109 ألف عامل)، اليونان (103 ألف عامل) والمجر بحوالي 83 ألف عامل.

وبحسب التقرير ايضاً، زاد عدد الأجانب الذين قدموا إلى ألمانيا من دول خارج الاتحاد الأوروبي للعمل بشكل كبير في السنوات الأخيرة. ففي نهاية عام 2021م، تم تسجيل 295 ألف موظف وعامل تقريباً في السجل المركزي للأجانب الذين لديهم تصريح إقامة مؤقتة للعمل بأجر، وبهذا العدد يكون عدد العمال القادمين من خارج دول الاتحاد الأوربي قد تضاعف بأكثر من ثلاثة أضعاف (226 في المئة) في غضون عشر سنوات. حيث كان هناك 90500 شخصًا يحملون تصريح الإقامة هذا مسجلين في ألمانيا في نهاية عام 2011م.

في نهاية عام 2021م، كان ما يقرب من ربع العمال الأجانب (24 في المئة) متخصصين أكاديميين مع ما يسمى بالبطاقة الزرقاء. (نظام إقامة العمل بالبطاقة الزرقاء هو نظم تم تطبيقه في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي بداية من عام 2012م، بهدف مواجهة النقص في المتخصصين المؤهلين تأهيلا عاليا.) والشرط الأساسي للحصول على البطاقة الزرقاء هو الحصول على شهادة جامعية وعرض عمل براتب سنوي إجمالي لا يقل عن 56400 يورو. اما فيما يسمى بالمهن التي تعاني دول الاتحاد الأوروبي من نقص فيها، فتم تطبيق حد أدنى للراتب الإجمالي يبلغ 43992 يورو. في نهاية عام 2021م، كان ما يقرب من نصف حاملي البطاقة الزرقاء (48 في المئة) يعملون في مهنة تعاني من نقص، مثل الأطباء وكذلك في مجال تكنولوجيا المعلومات.

وتعد الهند البلد الأول في عدد العاملين الأجانب في ألمانيا بعدد يصل الى 34 ألف شخص وبنسبة 11 في المئة من اجمالي الموظفين والعمال الأجانب من دول خارج الاتحاد الأوروبي بنهاية العام 2021م. يليها العمال من جمهورية البوسنة والهرسك بعدد 26.3 ألف شخص وبنسبة 9 في المئة وكوسفو بحوالي 20 ألف عامل وبنسبة 7 في المئة، الى جانب صربيا (17.4 ألف عامل)، الصين (16.7 ألف عامل) بالإضافة الى الولايات المتحدة الامريكية التي يعمل ما يقرب من 16.5 ألف من مواطنيها في ألمانيا.

الوظائف الشاغرة في الاقتصاد الألماني

كما هو معروف فإن الوظائف الشاغرة في الاقتصاد الألماني لا تقتصر على الوظائف المسجلة لدي مكتب العمل، اذ تشير تقديرات خبراء سوق العمل في ألمانيا الى وجود 1.7 مليون وظيفة شاغرة في ألمانيا. وتواجه الشركات مشاكل متزايدة في شغلها، ويرى رئيس اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية (DIHK)، Peter Adrian، أن الوقت قد تأخر لأجراء تعديلات على السياسة المتعلقة بالهجرة، مشدداً على انه «علينا في ألمانيا أن نعوض الخسائر الناجمة عن العوامل الديموغرافية التي ستسبب في خروج من أربعة إلى خمسة ملايين عامل على مدى السنوات العشر المقبلة من سوق العمل». مطالباً، بتفعيل وتحسين إجراءات هجرة العمال المهرة الى ألمانيا، وذلك من خلال تفعيل البعثات الدبلوماسية العاملة ومكاتب التأشيرات وسلطات الهجرة. وقال Adrian: «من غير المقبول أن يتعين عليك، كصاحب عمل، أولاً أن تلاحق الموظف في مكتب الهجرة المسؤول عن تصريح جلب العمال المهرة»، داعيا صناع القرار السياسي لخلق الظروف الإطارية المناسبة.

من جهته قال رئيس المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية (DIW) Marcel Fratzscher، «إن النقص في العمالة لا يقتصر فقط على المتخصصين المؤهلين تأهيلا عاليا، ولكنه يسري على جميع المهن تقريبا ومعظم المؤهلات». «لذلك، ستحتاج ألمانيا إلى 500 ألف موظف وعامل إضافي كل عام على مدى السنوات العشر القادمة.»

ومع قانون الهجرة الألماني الذي دخل حيز التنفيذ في مارس 2020م، يفترض تسهيل هجرة الأشخاص المؤهلين مهنيًا. ومع ذلك، وضعت شروط تمثل عوائق امام تسهيل جلب هؤلاء العمال المختصين، حيث يتعين عليهم قبل أن يتمكنوا من القدوم والعمل في ألمانيا إثبات أن مؤهلاتهم قابلة للمقارنة مع المؤهلات المهنية المطلوبة في ألمانيا. وهو ما يستغرق وقتا طويلاً نتيجة وجود عدد كبير من السلطات المختصة في ألمانيا التي يصعب فهمها للأطراف المهتمة من الخارج، بالإضافة الى الكلفة المادية التي يتحملها الموظف او العامل المؤهل. ولذا يعتبر الاعتراف بالمؤهلات المهنية عقبة رئيسية عندما يتعلق الأمر بتشجيع هجرة العمالة الماهرة. ووفقًا لمكتب للإحصاء الاتحادي، عالجت الجهات المختصة في ألمانيا في عام 2020م، حوالي 59000 إجراء اعتراف، وتم الاعتراف بالكامل بـ 44800 مؤهلاً مهنيًا تم الحصول عليها في الخارج.

وفي هذا الجانب تعمل الحكومة الاتحادية على تسهيل إجراءات هجرة العمال الى ألمانيا وذلك من خلال السماح للمهنيين المتمرسين بدخول ألمانيا دون عقد عمل للبحث عن وظيفة، وفقًا لشرطين:

– اولاً، لا يزال يتعين عليهم التقدم للحصول على الاعتراف بمؤهلاتهم ومقارنتها جزئيًا على الأقل بمؤهلات ألمانية في مكتب مسؤول في ألمانيا.

– ثانياً، عليهم إثبات قدرتهم على إعالة أنفسهم خلال فترة البحث عن عمل في ألمانيا.

وفي عام 2020م، وعلى الرغم من قانون الهجرة الجديد، دخل إلى ألمانيا أقل من 30 ألف شخص فقط وحصلوا على تصريح إقامة للعمل. لذلك يعتقد رئيس معهد DIW ان الهجرة وحدها لن تحل مشكلة نقص العمالة في ألمانيا. بينما دعا Fratzscher الى التركيز أكثر على عمالة المرأة. حيث تعمل أكثر من نصف النساء في ألمانيا بدوام جزئي، ويرغب الجزء الأكبر منهن في العمل لوقت أطول إذا كانت الظروف المالية والعائلية والبيروقراطية أفضل. لذلك يطالب Fratzscher «الحكومة الاتحادية أن تركز أخيرًا على إزالة العقبات التي تحول دون توظيف النساء».