يمثل الحجم الذي تشكلة الصناعات الكيميائية بالنسبة لمجمل الاقتصاد في البلد احد اهم المؤشرات على مدى التقدم والتطور الذي حققة هذا الاقتصاد انطلاقا من اهمية منتجات هذا القطاع والتي تدخل من خلال انتاجها من المواد الوسيطة في العديد من القطاعات الصناعية الاخرى بالاضافة الى اهمية الصناعات الدوائية، والتي تعد من اهم فروع قطاع الصناعات الكيميائية، بالنسبة لفعالية وكفاءة النظام الصحي. ناهيك عن المساهمة الكبيرة للصناعات الكيميائية بمختلف فروعها في البحث العلمي والابتكار نتيجة احتياج هذه الصناعة الى تطوير وتحديث منتجاتها بشكل مستمر. في ألمانيا يصنف قطاع الصناعات الكيميائية بانه ثالث اهم قطاع صناعي بعد صناعة السيارات وبعد قطاع صناعة المعدات والالات الصناعية. ويساهم القطاع بفعالية في سوق العمل وفي مجال الابتكار والبحث العلمي كما يمثل قطاعا محوريا لبقية القطاعات الصناعية التي تعتمد على منتجاته.

قطاع الصناعات الكيميائية الألمانية

يوجد في ألمانيا حوالي 2100 شركة كيميائية في مختلف فروع الصناعة ، توظف حاليًا أكثر من 466 الف شخص شخص. 92 في المئة من شركات الكيماويات الألمانية هي شركات صغيرة ومتوسطة الحجم والتي يقل عدد موظفيها عن 500 موظف.

تتميز الصناعة الكيميائية في ألمانيا بانها صناعة منتجة للسلع الوسيطة اكثر منها منتجة للسلع الاستهلاكية. فقط 27 في المئة من المنتجات الكيميائية (مثل الطلاء ، والدهانات ، والمواد اللاصقة ، والأسمدة ، ومنتجات العناية الشخصية) تذهب مباشرة إلى المستهلك النهائي. فيما تمثل السلع والمنتجات الوسيطة التي تدخل في صناعات اخري نحو ثلثي انتاج الصناعات الكيميائية. وتذهب اغلب هذه المنتجات الوسيطة الى صناعات البلاستيك وصناعة المعدات والالات وصناعة السيارات الى جانب صناعة التعبئة والتغليف والبناء وصناعات النسيج. بينما تذهب الحصة المتبقية إلى مقدمي الخدمات أو الاستخدام التجاري.

من حيث حجم المبيعات في السوق المحلي والاسواق الدولية، وبحسب تقرير لوزارة الاقتصاد الاتحادية، تحتل صناعة الكيماويات الألمانية المرتبة الأولى في أوروبا والثالثة على مستوى العالم بعد الصين والولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك ، فإن ألمانيا هي اكبر مصدر للسلع والمنتجات الكيميائية في العالم بصادرات بلغت قيمتها العام 2021م، نحو 240 مليار يورو، تليها الولايات المتحدة والصين . كما تعد ألمانيا في نفس الوقت ثالث أكبر مستورد بعد الولايات المتحدة والصين للمنتجات الكيميائية. إلى جانب الولايات المتحدة ، تعد أوروبا أهم أسواق مبيعات المنتجات الكيميائية الألمانية حيث تذهب نصف الصادرات إلى دول الاتحاد الأوروبي.

دور الصناعات الكيميائية في البحث العلمي

تعد الصناعة الكيميائية( والتي تمثل المنتجات الدوائية والصيدلانية ما يقرب من 24 في المئة من إجمالي الإنتاج الكيميائي). واحدة من أكثر القطاعات إنتاجية وكثافة في مجال البحث العلمي والابتكار في ألمانيا. وبالمقارنة في حجم نفقات البحث والتطوير ، تحتل الصناعات الكيميائية المرتبة الثالثة بعد صناعة السيارات وصناعة الادوات الكهربائية. كما تأتي 8 في المئة من براءات الاختراع العالمية في مجال الكيمياء والصيدلة من ألمانيا. وعلى مستوى العالم، تعد ألمانيا رابع أكبر موقع للابتكار الكيميائي والصيدلاني بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان.

ووفق احدث البيانات الصادرة عن اتحاد الصناعات الكيميائية الألمانية (VCI) فقد بلغ حجم استثمارات شركات الصناعات الكيميائية في مجال البحث والابتكار العام 2020م، نحو 12.5 مليار يورو. وهو ما يمثل تراجعا عن حجم الانفاق في هذا المجال في العام 2019م، والذي بلغ 13 مليار يورو . ويعود هذا التراجع الى اثار جائحة كورونا والتي اوقفت نمو الانفاق على البحث العلمي بعد ان استمر هذا النمو لتسع سنوات متتاليه حتى العام 2019م.

وحسب نتائج استطلاع اجراه اتحاد الصناعات الكيميائية فقد نفذت 60 في المئة من شركات القطاع مشاريعها البحثية كما هو مخطط لها في العام 2020م. بينما قامت 30 في المئة من الشركات بتأجيل مشاريع البحث والتطوير الفردية لبضعة أشهر على الأقل. بينما الغت 2 في المئة من الشركات مشاريعها البحثية بالكامل.

وفي هذا الجانب دعا توماس ويسل ، رئيس لجنة البحث والعلوم والتعليم في اتحاد الصناعات الكيميائية الألمانية (VCI) الى تعزيز موقع ألمانيا على خارطة البحث والابتكار العالمية من خلال دعم الحكومة الاتحادية لجهود شركات القطاع في البحث والتطوير، مؤكدا ان «جميع الشركات في الصناعات الكيميائية تأثرت سلباً بالجائحة، لكن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم تأثرت بشدة بشكل خاص». مضيفاً انه وبغض النظر عن حجم الشركات ، فانها جميعاً تحتاج إلى تمويل لمشاريعها البحثية. ولهذا ووفقًا لـويسل ، فإن الحوافز الضريبية التي تشجع على الانفاق على الأبحاث أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى. الى جانب اعتماد إجراءات تمويل أقل بيروقراطية، حيث يتعين في الوقت الحالي على الشركات الانتظار أحيانًا لمدة تصل إلى عامين للموافقة على تمويل المشاريع.

كما أشار رئيس لجنة البحث والعلوم والتعليم في اتحاد الصناعات الكيميائية الألمانية أيضًا إلى الدور الحاسم الذي لعبته التكنولوجيا الحيوية المبتكرة في الطب أثناء جائحة كورونا. حيث تمكن العلماء والشركات من فك شفرة جينوم فيروس كورونا الجديد في وقت قياسي. مشدداً على انه يجب على ألمانيا استخدام هذا الزخم وتعزيز التكنولوجيا الحيوية والتقنيات الجديدة والسماح باستخدامها، ليس فقط في الطب، ولكن أيضًا في مجال التكنولوجيا الحيوية الصناعية والزراعة.

التحديات التي تواجة الصناعات الكيميائية

تواجه الصناعات الكيميائية في ألمانيا العديد من التحديات والصعوبات المتزايدة الناتجه عن ازمة كورونا والتي ما تزال اثارها وانعكاساها مستمرة منذ العام 2020م، وحتى الان، الى جانب ازمة توقف امدادات الطاقه والارتفاع الكبير في اسعارها، خصوصا اسعار الغاز الطبيعي.

لقد تسببت جائحة كورونا في العديد من التعقيدات والصعوبات التي اثرت على مختلف القطاعات الاقتصادية بشكل عام وعلى قطاع الصناعات الكيميائية بشكل خاص. حيث أدت فترات التسليم الطويلة للمواد الخام والمواد الاولية وانقطاع سلاسل التوريد وتكاليف الشحن المرتفعة إلى إعاقة الأنشطة التجارية للشركات، هذا بالاضافة الى انخفاض الطلب على المنتجات الكيميائية، باستثناء المواد الصيدلانية، بسبب الاغلاق الاقتصادي. ولم تستطع شركات القطاع العودة الى النمو مرة آخرى الا في الربع الثالث من العام 2021م. ، حيث زاد إنتاج الصناعة بشكل عام بشكل طفيف، والسبب في ذلك هو النمو الإيجابي في قطاع الأدوية بسبب ارتفاع الطلب على اللقاحات. كما تطورت مبيعات الصناعة بشكل إيجابي في الفترة من يوليو إلى سبتمبر 2021م. والتي تعود قبل كل شئ الى ارتفاع اسعار السلع الكيميائية والتي ادت بالتبعية الى زيادة الإيرادات. بالإضافة إلى ذلك ارتفاع الطلب، خصوصا الخارجي، على المنتجات الكيماوية من أجل منع نقص المواد وزيادة المخزونات.

اداء شركات الصناعات الكيميائية خلال العام 2022م

واجهت الصناعات الكيميائية العديد من التحديات الاضافية في العام 2022م، فالى جانب فترات التسليم الطويلة وتكاليف الشحن المرتفعة والاختناقات في المواد الخام والمواد الوسيطة. واجهت الشركات ارتفاعا هائلا في أسعار الطاقة، وخاصة الغاز الطبيعي بسبب الحرب الروسية على اوكرانيا وسلسلة العقوبات التي فرضتها دول الاتحاد الاوروبي على روسيا والتي قابلتها روسيا بوقف لامدادات الطاقة الى الاسواق الاوروبية وخصوصا السوق الألماني الذي كان يعتمد على 40 في المئة من حاجاته من الغاز الطبيعي على الامدادات الروسية.

كل هذه التحديات تسببت في تراجع اداء شركات القطاع خلال العام 2022م، فبحسب بيانات اتحاد الصناعات الكيميائية الألمانية (VCI) للستة الاشهر الاولى من العام الجاري . وباستثناء المستحضرات الصيدلانية ، انخفض الإنتاج في القطاع بنسبة 3 في المئة. الا انه وبسبب تحميل الشركات لجزء من التكاليف الاضافية للانتاج للمستهلكين عبر رفع اسعار المنتجات الكيميائية بنسبة 21.5 في المئة، ارتفعت قيمة المبيعات بنسبة 22 في المئة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي 2021م، لتصل الى 130 مليار يورو .

لكن هذه الزيادة في قيمة المبيعات لا تعكس الوضع الاقتصادي الحقيقي للصناعات الكيميائية في ألمانيا. حيث انخفض حجم الاعمال في القطاع وتراجع حجم الطلبات إلى حد كبير وانخفض الانتاج. بالاضافة الى ذلك تتعرض هوامش الربح للعديد من الشركات لضغوط متزايدة حيث ارتفعت تكلفة المواد الخام والطاقة بأكثر من الثلث في المتوسط خلال الفترة من يناير إلى يونيو 2022م، فيما عانت 20 في المئة من الشركات في هذا القطاع من ارتفاع في تكاليف المواد الخام والطاقة بآكثر من 50 في المئة.

في الوقت نفسه، أصبح من الصعب بشكل متزايد على الشركات تمرير هذه التكاليف المتزايدة وتحميلها على العملاء في شكل رفع اضافي للأسعار. فأكثر من 50 في المئة من الشركات كانت قادرة على تمرير أقل من نصف الزيادة في التكلفة. وكان لذلك تأثير سلبي على وضع أرباح الشركات، حيث أبلغ حوالي 70 في المئة من الشركات بالفعل عن انخفاض في الأرباح خلال النصف الاول من العام 2022م. وقد عانت جميع فروع الصناعة تقريبًا من خسائر في الإنتاج في الستة اشهر الاولى من عام 2022م. وتضررت الشركات العاملة في انتاج الكيماويات الدقيقة والمتخصصة بشكل اكبر، حيث انخفض انتاجها بنسبة 9 في المئة. وعلى العكس من ذلك حققت شركات تصنيع المستحضرات الصيدلانية زيادة في الانتاج بنسبة 8.5 في المئة بفضل الطلب الكبير الناتج عن جائحة كورونا.

مستقبل الاعمال الخاصة بقطاع الصناعات الكيميائية

بالنسبة لاجمالي اعمال القطاع خلال العام 2022م، فيتوقع اتحاد الصناعات الكيميائية ان يتراجع انتاج القطاع في مجمل العام بنحو 1.5 في المئة. بالاضافة الى ذلك يبدو ان شركات القطاع قد تجاوزت السيناريو الاسوء الخاص بحصول عجز في كميات الغاز الطبيعي خلال الشتاء الحالي وعدم اضطرار الحكومة الاتحادية لتفعيل خطة الطوارئ الخاصة بأولوية توزيع الغاز والتي تنص على اعطاء الاولوية لامداد المواطنين بالغاز بالدرجة الاولى ومن ثم امداد المؤسسات الرسمية مثل المستشفيات ودور الرعاية والمدارس. فيما يأتي القطاع الصناعي في مرتبة متأخرة في قائمة الاولويات، بمعني انه في حالة حدوث عجز في كميات الغاز الطبيعي فان شركات القطاع سوف تضطر الى خفض انتاجها بدرجة كبيرة او حتى وقف انتاجها.

لكن خطر حدوث عجز في توفير كميات الغاز الطبيعي الذي تحتاجة ألمانيا والذي يظهر ان الاقتصاد الألماني قد نجا منه خلال الاشهر القليلة القادمة، لم ينتهي تماما بل تم تأجيله الى الشتاء التالي، حيث ان ملء خزانات الغاز الطبيعي تم هذا العام وبدرجة رئيسية بالغاز الروسي وهو ما لن يكون متاحاً على الارجح خلال العام 2023م، وحتى اذا ما تم توفير كميات كافية من الغاز الطبيعي، فغالبا سيظل سعر الغاز الطبيعي أغلى بكثير مما هو عليه في مناطق أخرى من العالم. وبالتالي فان الاحتمالات التي تواجهها شركات الصناعات الكيميائية الألمانية هي اما تراجع كبير في قدرتها التنافسية بالمقارنةمع الشركات المشابهه في الدول الاخرى. او اضطرار الشركات الى خفض انتاجها بدرجة كبيرة او حتى الايقاف التام لهذا الانتاج وربما نقل عملياتها الانتاجية الى دول أخرى، وهو ما سيتسبب في احداث اضرار كبيرة جدا بالاقتصاد الألماني. وفي هذا الجانب يدعو اتحاد الصناعات الكيميائية وعدد من الخبراء الحكومة الاتحادية والمفوضية الاوروبية الى اتباع سياسيات واتخاذ اجراءات لمنع حدوث ذلك.