لطالما عُرفت ألمانيا بانها بلد صناعي في الدرجة الأولى والذي يمثل فيها قطاع الصناعة العمود الفقري لاقتصادها، وهذا الامر صحيح تماما الا انه لا يعني ان ألمانيا ليست بلدا زراعيا في نفس الوقت حتى لو كانت مساهمة قطاع الزراعة محدودة في الناتج المحلي الإجمالي بالمقارنة مع باقي القطاعات الاقتصادية الأخرى، الا ان للقطاع أهمية أخرى نابعة من دورة في الامن الغذائي وضمان توافر المواد الغذائية بالجودة والكمية المناسبة لتلبية احتياجات المواطنين، خصوصا في أوقات الازمات وهو ما ظهر جليا بعد ازمة نقص الامدادات العالمية من الحبوب وبعض الزيوت النباتية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا وهو ما أدى، الى جانب ارتفاع الأسعار بشكل كبير، الى تهديد الامن الغذائي في العديد من الدول بسبب اعتمادها على استيراد المواد الغذائية.

ارتفاع اسعار المواد الغذائية

أدت الحرب الروسية على أوكرانيا الى ان ترتفع أسعار المنتجات الزراعية بوتيرة كبيرة في الشهر الأول بعد اندلاع الحرب حيث ارتفعت الأسعار في شهر فبراير بنسبة 15.1 في المئة، وارتفعت بنسبة 34.7 في المئة في المتوسط في مارس، وذلك وفقا لبيانات مكتب الاحصاء الاتحادي.

وترجع الزيادة الكبيرة في الأسعار جزئيًا إلى أسعار الحبوب، التي ارتفعت بشدة في شهر مارس حيث كانت أعلى بنسبة 70.2 في المئة بالمقارنة مع نفس الشهر من العام الماضي. وأوضح خبراء اقتصاديون أن «السبب الرئيسي للزيادة الهائلة في أسعار الحبوب هو نقص المعروض نتيجة الحرب في أوكرانيا». «ونتيجة لذلك، ساء مرة أخرى بشكل ملحوظ الوضع المتوتر بالفعل في السوق العالمية مع ارتفاع الطلب.» كما ارتفعت أسعار البطاطس في شهر مارس أيضا بنسبة بلغت 91.7 في المئة. ويرجع ذلك أساسًا إلى انخفاض كميات الحصاد بسبب الطقس الى جانب التراجع في أسعار البطاطس في العام الماضي بأكثر من 50 في المئة بسبب كميات الحصاد الكبيرة ونقص المبيعات بسبب كورونا. وبالتالي ادي ذلك الى تصحيح الأسعار خلال العام الحالي.

وارتفعت أسعار المحصول التجاري لبذور اللفت بنسبة 70.1 في المئة، وترجع هذه التكلفة الإضافية بشكل أساسي إلى تراجع الكمية المعروضة المقترنة بارتفاع الطلب، خصوصا بسبب ارتفاع أسعار الوقود حيث تستخدم بذور اللفت لإنتاج الغاز الحيوي أو استخدامها كوقود (وقود الديزل الحيوي). كما تضاعفت أسعار الزيوت النباتية المنتجة من بذور زهرة عباد الشمس والذي تحتكر أوكرانيا نحو 90 في المئة من الصادرات العالمية منه.

إن عواقب تراجع مساهمة روسيا واوكرانيا في تجارة الحبوب العالمية وإمداداتها كبيرة، ففي النهاية، يساهم كلا البلدين معًا بنحو 29 في المئة من صادرات القمح العالمية و19 في المئة من صادرات الذرة. كما انه لا يمكن للمصدرين الرئيسيين الآخرين سد العجز الذي سيتولد عن خروج البلدين من السوق العالمي، كما يظهر ذلك ارتفاع أسعار الحبوب بشكل قياسي. لذلك تحذر منظمة الأغذية العالمية (الفاو) من مجاعة وردود فعل شعبية غاضبة، خاصة في الدول الفقيرة، الى جانب الارتفاع الكبير في أسعار الخبز والغذاء في الدول الصناعية الغربية

قطاع الزراعة في ألمانيا

تصنف ألمانيا على انها دولة ذات قطاع زراعي قوي، فبالرغم من ان الكثافة السكانية العالية وانتشار المدن والحواضر على طول ألمانيا وعرضها، فإن نصف مساحة ألمانيا (حوالي 18.1 مليون هكتار) تستخدم للزراعة، كما يبلغ عدد العاملين في القطاع، بشكل مباشر وغير مباشر، نحو مليون شخص يعملون في اطار270 ألف مزرعة تقريبا وبإيرادات تبلغ قيمتها حوالي 59 مليار يورو سنويًا. ويدخل ضمن إطار قطاع الزراعة المؤسسات والشركات التي تنتج أغذية من أصل نباتي وحيواني، إلى جانب صيد الأسماك والغابات. وفي هذا الإطار بلغ عدد مزارع تربية الأبقار في ألمانيا 54800 مزرعة بانخفاض بمقدار 2500 مزرعة، والتي احتفظت بإجمالي 3.83 مليون بقرة حلوب، اي حوالي 2 في المئة أقل مما كان عليه في عام 2020م. في حين أن متوسط عدد الأبقار الحلوب لكل مزرعة 70 حيوانًا، وبالكاد تغير متوسط إنتاج الحليب السنوي لكل بقرة عند 8488 كيلوجرامًا. كما تمتلك مزارع الدواجن في ألمانيا حوالي 49.6 مليون دجاجة بياضة تنتج سنويا أكثر من 14 مليار بيضة.

في السنوات السبعين الماضية، زادت كفاءة الإنتاج الزراعي في ألمانيا بشكل كبير، فبينما كان انتاج المزارع الواحد من المحاصيل والمنتجات الغذائية المختلفة يكفي لتزويد حوالي أربعة أشخاص بالطعام في عام 1900م، وصل عدد هؤلاء الى عشرة اشخاص في عام 1950م، والى نحو 140 شخصًا في عام 2017م، مع الاستمرار في الارتفاع.

وقد انخفضت مساهمة قطاع الزراعة في الناتج المحلي الاجمالي بشكل عام وكذلك بالمقارنة مع قطاعات اقتصادية أخرى مثل الصناعة او قطاع الخدمات مع مرور الزمن، ففي بداية الثورة الصناعية بداية القرن التاسع عشر كان قطاع الزراعة يساهم بنحو نصف قيمة الناتج المحلي الإجمالي بينما لا تتجاوز مساهمة القطاع في الوقت الحاضر واحد في المئة من الناتج المحلي. كما تراجعت الأهمية التقليدية للزراعة كمشغل كثيف للعمالة في الاقتصاد الألماني، حيث كان القطاع يوظف حوالي 22.1 في المئة من القوى العاملة في ألمانيا (الغربية) في عام 1950م، انخفضت هذه النسبة إلى حوالي 1.3 في المئة بحلول عام 2020م. ويرجع السبب الرئيسي لهذا التغيير الهيكلي الى زيادة الإنتاجية من خلال ميكنة الزراعة والتي قطعت شوطا بعيداً.

من التغيرات التي أثرت أيضا على قطاع الزراعة في ألمانيا ارتفاع متطلبات رأس المال المتزايدة للزراعة الحديثة وضغط الأسعار المتزايد خصوصا أسعار الأعلاف والآلات الزراعية والأسمدة والمبيدات وكذلك وقود السيارات والكهرباء والذي ادي الى تراجع عدد المزارع الإجمالي في ألمانيا في مقابل زيادة مساحة المزارع فقد زاد عدد المزارع التي تزيد مساحتها عن 100 هكتار. بالإضافة الى ذلك يشهد الاتجاه نحو الزراعة العضوية (الزراعة بدون استخدام مبيدات او اسمدة كيميائية او بذور معدلة وراثيا) تزايد مستمراً حيث تضاعفت نسبة المزارع العضوية من إجمالي المزارع بين عامي 1995م و2019م، من 1.1 إلى حوالي 12.9 في المئة الى جانب ان حوالي 10 في المئة من الأراضي الزراعية في ألمانيا أصبحت مزروعة عضوياً. وتقع معظم المزارع ذات الزراعة العضوية في ولاية بافاريا الفيدرالية.

انتاج ألمانيا من الحبوب والمواد الغذائية المختلفة العام 2021م

حصد المزارعون في ألمانيا حوالي 43.3 مليون طن من الحبوب (بما في ذلك الذرة) في عام 2021م. وبالتالي كان حجم المحصول أقل بنسبة 2 في المئة من حجم الحصاد في العام السابق. وبلغ محصول القمح الشتوي، أهم أنواع الحبوب في ألمانيا، 21.1 مليون طن. كان ذلك 657200 طن أو أقل بنسبة 3 في المئة عن محصول عام 2020م. ووفقًا للنتائج النهائية للمسح الرئيسي لاستخدام الأراضي، تمت زراعة القمح الشتوي على مساحة 2.9 مليون هكتار في عام 2021م. وفي نفس العام استخدم المزارعون حوالي 1.5 مليون هكتار لزراعة الشعير وبلغ المحصول النهائي 10.4 مليون طن، وهو ما يمثل أقل بنسبة 3 في المئة عن محصول العام السابق. كما بلغ الحصاد النهائي لمحصول بذور اللفت الزيتية 3.5 مليون طن، أي تقريبًا نفس مستوي الحصاد في العام السابق.

إضافة الى محاصيل الحبوب، تم حصاد 11.3 مليون طن من البطاطس في ألمانيا العام 2021م، وهو ما يساوي أقل بنسبة 3 في المئة من محصول عام 2020م. وقد تم استخدام مساحة مزروعة 258300 هكتار لزراعة البطاطس، أي 15200 هكتار أو ما يقرب من 6 في المئة أقل من عام 2020م.

الامن الغذائي

تعد ألمانيا ثاني أكبر منتج للحبوب في الاتحاد الأوروبي بعد فرنسا وتكفي محاصيل العديد من أنواع الحبوب الاستهلاك الداخلي بل يتم تصدير كميات كبيرة من بعض أنواع الحبوب وخصوصا القمح الطري، المخصص لإنتاج الخبز ومختلف المعجنات، والذي بلغت نسبة اكتفاء ألمانيا 125 في المئة، كما بلغ حجم صادرات ألمانيا منه خلال العام 2021م نحو 10 مليون طن. كما تبلغ نسبة اكتفاء ألمانيا من انتاج الشعير والذي يستخدم الجزء الأكبر منه في صناعة الاعلاف 113 في المئة. اما عندما يتعلق الأمر بأنواع أخرى من الحبوب التي تعتبر مهمة أيضًا للتغذية، مثل القمح الصلب والشوفان، فيتعين على الألمان استيراد كميات كبيرة، حيث تبلغ درجة الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب المطلوب لإنتاج المعكرونة 15 في المئة فقط، وبالنسبة للشوفان تصل نسبة الاكتفاء الذاتي إلى 71 في المئة، كذلك يتم استيراد الذرة بكميات كبيرة باعتبارها اهم حبوب الأعلاف في العالم.

وعلى عكس المتصور فان الجزء الأكبر من محاصيل الحبوب في ألمانيا لا تذهب لاستهلاك الانسان كغذاء بشكل مباشر، فمن ضمن ما يزيد عن 43 مليون طن من الحبوب التي تم حصدها في موسم 2021م في ألمانيا، ذهب 8.6 مليون طن منها فقط او 20 في المئة لتغذية الانسان، فيما تم تخصيص ما يقرب من 25 مليون طن أو 58 في المئة من المحصول لصناعة الاعلاف لتغذية الحيوانات. كما يتم استخدام 3.8 مليون طن أو ما يقرب من 9 في المئة أيضًا لإنتاج الطاقة وتستخدم الصناعة أيضًا حوالي 8 في المئة من المحصول (بما في ذلك تخمير الشعير والنشا)، ويتم تخصيص 2 في المئة للبذور.

وبالنسبة الى صادرات ألمانيا من الحبوب فتعد ألمانيا من مصدري القمح عالي الجودة والمخصص للاستهلاك كغذاء وتتنافس في هذا المجال مع دول البلطيق وكندا، وقد صدرت ألمانيا خلال العام 2021م ما يقرب من 10 ملايين طن الى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى والسوق العالمية، ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، تم استيراد حوالي 5 ملايين طن من القمح المخصص لصناعة الأعلاف من جمهورية التشيك وبولندا وفرنسا.

في جانب المواد الغذائية الأخرى ما تزال ألمانيا تحقق نسبة اكتفاء ذاتي عالية في انتاج الالبان ومشتقاتها حيث بلغ انتاج ألمانيا من حليب الابقار في العام 2021م، نحو 32 مليون طن، وهو ما يمثل اقل بنسبة 1.3 في المئة بالمقارنة مع الكمية المنتجة في العام 2020م، وتبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي من حليب الشرب 112 في المئة. وفي عام 2021م، انخفض إنتاج الزبدة ودهون الحليب والألبان القابلة للدهن إلى 471،100 طن بانخفاض قدره سبعة في المئة، وهو ما انعكس أيضًا على الارتفاع الحاد في أسعار الزبدة. وبلغت درجة الاكتفاء الذاتي 92.4 في المئة. هذا فيما ارتفع حجم إنتاج الجبن بنسبة 1 في المئة إلى 2.67 مليون طن مقارنة بعام 2020م، مما يدل على استمرار النمو طويل الأجل في إنتاج الجبن. وتحقق ألمانيا اكتفاءً ذاتياً من منتجات الاجبان بل ارتفع حجم الصادرات في العام 2021م، بنحو ثلاثة في المئة إلى 1.36 مليون طن.

في مجال امدادات اللحوم وبحسب بيانات الوكالة الاتحادية للزراعة والتغذية (BZL) بلغ حجم انتاج اللحوم المختلفة في ألمانيا في العام 2021م نحو 8.3 مليون طن، أي حوالي 2.4 في المئة أقل من العام السابق. ووفقًا لأرقام BZL، بلغت درجة الاكتفاء الذاتي في اللحوم في ألمانيا نسبة 121 في المئة لعام 2021م، بزيادة قدرها 2.5 في المئة عن العام السابق. وبلغ معدل الاكتفاء الذاتي من لحم الخنزير 132.4 في المئة، ولحوم البقر 98.2 في المئة. في حالة الدواجن، أمكن تغطية 96.7 في المئة من الطلب الداخلي من الإنتاج المحلي.

في انتاج البيض في عام 2021م، زاد عدد الدجاج البياض في الحظائر الألمانية بحوالي 400000 رأس إلى 49.6 مليون، بما في ذلك العدد التقديري للدجاج البياض في المزارع الصغيرة التي يقل عدد أماكنها عن 3000 مكان. مع أداء وضع يقارب 294 بيضة لكل دجاجة، تم إنتاج 14.6 مليار بيضة للاستهلاك العام 2021م. وقد ارتفعت درجة الاكتفاء الذاتي من البيض في ألمانيا بنحو نقطتين مئويتين لتصل إلى 73 في المئة. وتستورد ألمانيا باقي احتياجها من البيض من بولندا وهولندا.

وبينما تميل ألمانيا إلى إنتاج فوائض من المنتجات الحيوانية (اللحوم، الحليب) وكذلك الحبوب والبطاطس التي يتم تصدير جزء منها، فإن درجة الاكتفاء الذاتي من الفاكهة والخضروات تقل بشكل ملحوظ عن 50 في المئة ويتم تغطية الجزء المتبقي عبر الاستيراد خصوصا من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بدرجة رئيسية.

وفق كل هذه المعطيات يمكن القول بان ألمانيا حققت جزء كبيرا من الامن الغذائي خصوصا في المنتجات التي تشهد شحا ونقصا في الأسواق العالمية مثل القمح، وان ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي تشهده أسواقها يعود أساسا لأسباب غير متعلقة بإنتاج المواد الغذائية بقدر تعلقها بارتفاع مدخلات ومعطيات الإنتاج الأخرى مثل ارتفاع أسعار الطاقة والتي ترفع تكلفة استخدام الآلات والمعدات الازمة للعمل في قطاع الزراعة وكذلك رفع كلفة النقل من المنتج الى المستهلك النهائي.