شهد العالم خلال ازمة كورونا العديد من الازمات الاقتصادية والتي تمثلت في انقطاع سلاسل التوريد العالمية للمواد الوسيطة والمواد الأولية وتراجع حركة الشحن البحري وتراجع الإنتاج في العديد من القطاعات الصناعية. بالإضافة الى تراجع الاستهلاك خصوصا في الدول الصناعية الكبرى. وكان من أبرز الازمات الاقتصادية الناتجة عن كورونا ازمة النقص في الرقائق الالكترونية والتي تعد مكون أساسي لا يمكن الاستغناء عنه في اغلب الصناعات، وهي الازمة التي ما تزال موجودة حتى الوقت الحاضر مع توقع استمرارها للعام القادم او حتى للأعوام التالية ايضاً.

تأثير نقص الرقائق الإلكترونية على الصناعة الألمانية

انخفض الناتج الصناعي الألماني خلال شهر ابريل من العام 2022م، بنسبة 1 في المئة، ويأتي هذا الانخفاض على الرغم من ارتفاع الطلبات على المنتجات الصناعية محليا ودوليا، الا ان النقص في العديد من المواد الاولية ادي الى ايقاف الانتاج في أكثر من قطاع من اهمها صناعة السيارات. حيث تركز النقص في المنتجات الوسيطة من الرقائق الإلكترونية التي تستخدم في صناعة السيارات والصناعات الالكترونية، وقد عانت صناعة السيارات وقطع غيارها بشكل أكبر، حيث تراجع الانتاج في هذا القطاع في شهر ابريل 2022م بنسبة 5،6 في المئة، مقارنة بالشهر الذي قبله، كما تراجع الانتاج في صناعة الآلات والمعدات بنسبة 0،3 في المئة.

لقد ادى النقص في الرقائق الالكترونية إلى إبطاء إنتاج السيارات في جميع أنحاء العالم، لأن صناعة السيارات أصبحت تعتمد بشكل متزايد على تكنولوجيا المعلومات الحديثة والمكونات المطلوبة لها، بحيث يتم الآن التحكم إلكترونياً في معظم عمليات المركبات المعقدة بشكل متزايد. في ألمانيا، والتي تعد من أكبر واهم مصنعي السيارات في العالم، اضطرت مصانع Ford في كولونيا أن تخفض إنتاجها بسبب نقص الرقائق الدقيقة، وبنفس الطريقة وجدت شركات Daimler وAudi الي جانب شركة فولكس فاجن نفسها مضطرة الى خفض انتاجها هي الاخرى، واشارت مصادر شركة VW الى ان انتاجها العام الماضي انخفض بنحو 100 ألف سيارة بسبب النقص في اشباه الموصلات.

هذا ومن المحتمل أن يستمر النقص في أشباه الموصلات لفترة أطول مما كان متوقعا، مع إمكانية ان تتأثر صناعة الهواتف الذكية وصناعة الأجهزة المنزلية بهذا النقص. فقد أعلنت شركة Flex، ثالث أكبر شركة مصنعة لرقاقات الالكترونية في العالم، والتي يقع مقرها في سنغافورة، أنه يمكن توقع حدوث نقص في العرض لمدة عام آخر على الأقل، فبما يتوقع خبراء اخرون أن تستمر المشكلة حتى عام 2023م.

ونشأت مشكلة نقص الرقائق الالكترونية بسبب خفض النشاط الاقتصادي في الكثير من القطاعات الصناعية بسبب ازمة كورونا العام 2020م، وكذلك خفض الطلب على السيارات، فيما زاد الطلب على الإلكترونيات الترفيهية، مثل وحدات التحكم في الألعاب أو أجهزة التلفزيون، بشكل كبير. وبعد استعادة الاقتصاد في العالم وفي ألمانيا لنشاطه وعودة الإنتاج الى مستويات قريبة لمستوياته قبل الازمة، ارتفع الطلب بشكل كبير على الرقائق الالكترونية وعلى مختلف المواد الأولية مما تسبب في قلة توافر هذه المواد وتأخر وصولها. هذا الى جانب احتكار تصنيع هذه الرقائق وقلة عدد الدول المنتجة لها، حيث تمتلك تايوان وحدها ثلثي القدرة العالمية لتصنيع الرقائق والمعالجات، وتعتبر شركة تصنيع الرقائق الالكترونية التايوانية « TSMC»، الشركة الأكبر عالميا في هذا المجال.

حجم صناعة الرقائق الالكترونية يصل الى ترليون دولار العام 2030م

تشهد صناعة الرقائق الإلكترونية في جميع انحاء العالم نمواً قوياً يتوقع ان يتراوح ما بين 6 و8 في المئة سنويا حتى العام 2030م، حيث يتُوقع ان يبلغ حجم إيرادات الصناعة أكثر من ترليون دولار امريكي، وذلك بحسب تقرير لشركة Company & McKinsey للاستشارات والذي اظهر أيضا ان حجم سوق الرقائق الالكترونية قد بلغ العام 2021م حوالي 600 مليار دولار. ويشير Ondrej Burkackyالخبير في McKinsey الى ان دخول الرقمنة في مختلف جوانب الحياة وكذلك في عمل الشركات وفي الإنتاج الصناعي، والذي تضاعف خلال جائحة كورونا، قد ساهم بشكل جذري في رفع الطلب على الرقائق الالكترونية خصوصا في قطاعات سريعة النمو مثل صناعة السيارات الالكترونية وصناعة المنتجات المعتمدة على الذكاء الصناعي.

في الوقت الحاضر تعاني صناعة الرقائق الإلكترونية من عدم قدرتها على تلبية الطلب المتزايد، ويظهر ذلك جليا في صناعة السيارات والتي وبسبب النقص في الرقائق الالكترونية انتجت عدداً اقل من السيارات في العام 2021م بالرغم من الطلب المرتفع في سوق السيارات، حيث ارتفع في العام 2021م وقت تسليم الرقائق الالكترونية من تاريخ الطلب الى الاستلام الى أكثر من 20 اسبوعاً. ويتوقع ان يستمر النقص في الرقائق الالكترونية خلال العام 2022م قبل ان تستطيع شركات صناعة الرقائق الالكترونية تلبية الطلب في العام 2023م وذلك بعد توقع زيادة القدرة الإنتاجية.

ويعتمد 70 في المئة من نمو صناعة الرقائق الالكترونية حتى العام 2030م على النمو الكبير وبالتالي الطلب الكبير من ثلاث قطاعات صناعية رئيسية وهي: صناعة السيارات والتي يُتوقع ان يرتفع الطلب فيها على الرقائق الالكترونية بنسبة 13 الى 15 في المئة سنوياً، خصوصا مع التوسع في صناعة السيارات الكهربائية وتطوير انتاج السيارات ذاتية القيادة. كما يأتي قطاع صناعة الحاسبات وتخزين البيانات والتي تدخل فيها صناعة منتجات الذكاء الصناعي في المركز الثاني كأهم القطاعات الصناعية التي ينمو فيها الطلب على الرقائق الالكترونية حيث ينمو هذا الطلب بنسبة تتراوح ما بين 4 وحتى 6 في المئة سنوياً. ويمثل قطاع الاتصالات اللاسلكية ثالث اهم القطاعات المؤثرة على زيادة نمو صناعة الرقائق الإلكترونية خصوصا مع توسع استهلاك الهواتف الذكية في الدول النامية والتوسع أيضا في بناء شبكات الاتصالات بتقنية الجيل الخامس 5G.

الاستراتيجية الأوروبية لدعم صناعة الرقائق الالكترونية

وفي هذا المجال تسعى دول الاتحاد الأوروبي الى اللحاق بالدول المنتجة للرقائق الإلكترونية وتطوير صناعة الرقائق داخل دول الاتحاد خصوصا بعد الازمة التي أدت الى نقص هذه الرقائق مما دفع القطاعات الصناعية في بعض الدول الأعضاء، قطاع صناعة السيارات على سبيل المثال، الى خفض انتاجها بمقدار الثلث بالإضافة الى التأخر في تسليم المنتجات الإلكترونية الأخرى مثل الكاميرات الرقمية، أجهزة الكمبيوتر المحمولة والأجهزة الطبية لفترات طويلة. وتتضمن خطة المفوضية الأوروبية لدعم صناعة الرقائق الالكترونية داخل دول الاتحاد توفير ما يقرب من 43 مليار يورو حتى العام 2030م. وتهدف هذه الأموال إلى المساعدة في بناء مرافق إنتاج الرقائق في أوروبا ودعم الباحثين والمطورين وذلك من اجل مضاعفة حصة أوروبا من إنتاج الرقائق في السوق العالمي من 10 في المئة في الوقت الحالي إلى 20 في المئة بحلول عام 2030م. كما تعمل المفوضية على تخفيف القواعد المنظمة لتلقى الشركات الخاصة بإنتاج الرقائق الالكترونية المساعدات الحكومية حتى تتمكن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من تقديم الدعم اللازم لرفع إنتاجية هذه الشركات، حيث تعمل قواعد المفوضية على ضبط الحد المسموح به لتقديم حكومات الدول الأعضاء المساعدات المالية بمختلف أنواعها لشركاتها المحلية، سواء كان هذا الدعم على شكل منح مالية او قروض ميسرة من اجل حماية التنافسية بين الشركات داخل دول الاتحاد ومنع الاحتكار. ولهذا الغرض أكدت مفوضة المنافسة داخل المفوضية الأوروبية مارغريت فيستاجر، على ان الدعم الحكومي لاي مشروع في قطاع انتاج الرقائق الالكترونية «يجب أن يكون لمشروع جديد، ويجب أن تكون المساعدة مناسبة ومستهدفة ويجب أن تستفيد كل الدول الأعضاء في الاتحاد من المشروع». بالإضافة الى ذلك تخطط المفوضية الأوروبية لمراقبة صناعة الرقائق الأوروبية عن كثب، وإذا لزم الأمر، إدخال ضوابط على الصادرات الى خارج الدول الأعضاء، على غرار ما حدث أثناء الاختناقات في إمدادات اللقاحات الخاصة بكورونا ووقف صادرات اللقاحات الى خارج الاتحاد. على ان يكون حظر الصادرات أخر الخطوات التي قد تلجأ اليها المفوضية لحماية صناعة الرقائق الإلكترونية الأوروبية.

كما تعمل ألمانيا من جانبها لحل مشكلة توافر اشباه الموصلات وكسر احتكار تصنيعها من قبل عدد محدود من المنتجين وذلك بالعمل على تطوير صناعة أشباه الموصلات داخليا، عبر إقامة تحالفات من الشركات الأوروبية في نموذج مشابه للتحالف الذي دعمة الاتحاد الأوروبي لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية داخل الاتحاد، حيث يظهر الآن أيضاً تحالف لتصنيع أشباه الموصلات على مستوى أوروبا. ويعد السوق الداخلي للاتحاد الأوروبي هو القوة الدافعة وراء المشروع. ويركز التحالف بشكل خاص على انتاج رقائق النانومتر فائقة النحافة، والتي يتم تصنيعها حالياً من قبل شركات آسيوية وأمريكية فقط.

وفي خطورة في هذا الاتجاه افتتحت شركة Bosch للتكنولوجيا وصناعة أجزاء السيارات مصنعها الجديد لتصنيع اشباه الموصلات عالية التقنية في دريسدن في ألمانيا، بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من وضع حجر الأساس، وقد بدء الإنتاج في نهاية عام 2021م، مع توقع بيع الشرائح الأولى في منتصف عام 2022م. وقد استثمرت الشركة نحو مليار يورو في انشاء المصنع كما تلقت دعما من الحكومة الاتحادية بنحو 140 مليون يورو. وتعد هذه الخطوة جزء من الاستراتيجية الألمانية لتوطين صناعة اشباه الموصلات وتطويرها وإعادة تشكيل سلسلة التوريد لتجنب الاختناقات او النقص في المواد الأولية اللازمة لاستمرار الصناعة في الإنتاج.

انتقادات الخطة الأوروبية لدعم صناعة الرقائق الالكترونية

يوجه العديد من الخبراء في قطاع الصناعة انتقادات شديدة لخطة المفوضية الأوروبية لدعم صناعة الرقائق الالكترونية وتوطينها في دول الاتحاد حيث يعتبرون ما تم تخصيصه من مبالغ لتمويل مشاريع تطوير هذه الصناعة في مجال توزيع الإعانات لبناء مصانع جديدة، أو توسيع قدرات الإنتاج الحالية أو تطوير تصاميم شرائح ورقائق جديدة حتى العام 2030م، اقل بكثير من اللازم بالمقارنة بما خصصته دول صناعية أخرى تعد أكثر تقدما وامتلاكا لحصة كبيرة في انتاج الرقائق الالكترونية. خصوصا ان هذه الدول تخطط لزيادة إنفاقها في السنوات القادمة لتوسيع وتطوير صناعة الرقائق الالكترونية. فالولايات المتحدة الامريكية، على سبيل المثال، تخطط لاستثمارات عامة بقيمة 52 مليار دولار لتوطين صناعة الرقائق الالكترونية على اراضي الولايات المتحدة، الصين أعلنت بدورها عن دعم لصناعة الرقائق الوطنية المحلية بقيمة 150 مليار دولار. فيما تخطط كوريا الجنوبية لإنفاق 432 مليار دولار بحلول عام 2030م، لتطوير صناعتها للرقائق الالكترونية بالرغم من انها تعد الان واحدة من اهم منتجيها. وبالمقارنة مع خطط هذه الدول فان تخصيص الاتحاد الأوروبي مبلغ 43 مليار يورو، أي ما يعادل 45 مليار دولار، كجزء مما يسمى «قانون الرقائق الأوروبية»، لتطوير هذه الصناعة أوروبيا اقل بمراحل مما تنوى الدول الأخرى انفاقه. ألمانيا من جهتها تناقش خططا لدعم صناعة الرقائق الالكترونية بحدود 14 مليار يورو فقط.

كذلك يحث الخبراء المسؤولين في ألمانيا وأوروبا على الإسراع في طلب التجهيزات الضرورية للمصانع الجديدة المزمع انشاؤها، حيث كان «عادة ما يستغرق الأمر ما بين ثلاثة إلى 18 شهرًا لاستلام معدات إنتاج الرقائق التي يتم طلبها. في الوقت الحالي، تضاعفت أوقات تسليم هذه الآلات لتصبح من ستة أشهر إلى 36 شهرًا «، حيث ان هناك حاليًا طلبات من جميع مناطق العالم تقريبًا. ومع انخفاض المبالغ الخاصة بتطور صناعة الرقائق الإلكترونية الا ان الخبراء يؤكدون ان ألمانيا وأوروبا قد أدركتا أن تقنية الرقائق الإلكترونية يجب ألا تترك للآخرين.