للمرة الاولي منذ اندلاع ازمة كورونا العام 2020م، تعود الحكومة الاتحادية الألمانية في العام 2024م الى الالتزام بالمادة الدستورية الخاصة بكبح الديون والتي تنص على ان لا يتجاوز حجم الاموال المسموح للحكومة ان تقترضها في العام الواحد عن نسبة 0.35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وكان قد جرى تعطيل هذه المادة الدستورية خلال الاعوام السابقة بموافقة البرلمان الاتحادي (البونستاج) تحت مبرر حالة الطوارئ الناتجة عن جائحة كورونا واحتياج الحكومة للاقتراض لتوفير الأموال لبرامج المساعدات الاقتصادية وتمويل اجراءات مواجه الجائحة. وساهم حكم المحكمة الدستورية الاتحادية بعدم دستورية قرار الحكومة بتحويل 60 مليار يورو من الأموال التي تم اقتراضها لمواجهة جائحة كورونا الى استخدامها في بنود أخرى في قرار العودة الى الالتزام بكابح الديون بالرغم من الحاجة الى تمويل العديد من المشاريع في مجال حماية البيئة وتحسين البنية التحتية.

     وينتقد حكماء الاقتصاد الألماني وأيضا صندوق النقد الدولي (IWF) القواعد الصارمة للديون في ألمانيا، وقدم حكماء الاقتصاد مقترحات بإصلاح كابح الديون حيث يرون ان القواعد الحالية صارمة للغاية وغير فعالة اقتصاديًا ويطالبون بقواعد تنظيمية أكثر مرونة. وصرحت Monika Schnitzer، رئيسة لجنة حكماء الاقتصاد “إن الأمر في الوقت الحالي صارم بلا داع. وإذا تركت مكابح الديون كما هي، فإن نسبة الدين سوف تنخفض بشكل أكبر من اللازم على مدى العقود القليلة المقبلة”. وتطالب Schnitzer ” بزيادة المرونة وإفساح المجال حتى يمكن رفع الإنفاق العام الموجه نحو المستقبل دون تقويض استدامة مالية الدولة”.

     ووضع حكماء الاقتصاد ثلاث مقترحات لإصلاح كابح الديون:

     أولًا ان يعتمد الاقتراض الجديد على مستوى الدين العام، في الوقت الحاضر يسمح كابح الديون بمجال للاقتراض يبلغ 0.35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، يعتبر حكماء الاقتصاد هذا الأمر صارمًا للغاية، حيث يؤدي إلى “تقييد الاستثمارات أكثر مما هو ضروري”. وفي ظل ظروف معينة مثل زيادة النمو الاقتصادي أو الفائدة المنخفضة، تكون “نسب الديون العالية قابلة للتحمل”.  في الوقت الحالي، تقدر نسبة الدين العام في ألمانيا 64 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويرى حكماء الاقتصاد انه إذا كانت نسبة الديون أقل من 60 في المئة، يمكن أن يصل الاقتراض الجديد الى واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بدلاً من 0.35 في المئة سنويًا. اما إذا كانت نسبة الديون أكثر من 60 في المئة، فيجب أن يُسمح بديون تصل إلى 0.5 في المئة. وفي حالة إذا كانت نسبة الديون أكثر من 90 في المئة، فيجب أن تعود النسبة إلى 0.35 في المئة مرة أخرى. ووفقًا لهذا الاقتراح فسوف تتراجع نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي إلى 59 في المئة بحلول عام 2070م. اما إذا ما استمر كابح الديون بشكله الحالي فان الدين العام سيصل الى أقل من 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العام 2070م.

     ثانيًا الترتيبات الانتقالية بعد الأزمات: بحسب الدستور الألماني فانه بإمكان البرلمان ان يقوم بتعليق كابح الديون بسبب حالة طوارئ، كما حدث في السنوات الأخيرة بسبب جائحة كورونا أو أزمة الطاقة، ولكن لعام واحد فقط، على ان يعود الحد المسموح للاقتراض الى 0.35 في المئة في بداية العام التالي مباشرة. وتكمن الإشكالية هنا بان الازمات واثارها لا تنتهي فجاءة بل قد تستمر لعدة سنوات حيث «غالبًا ما يكون للأزمات آثار ملحوظة حتى عندما يتم التغلب على سببها الرئيسي بالفعل». وبطبيعة الحال، يمكن أن يعلن البرلمان حالة الطوارئ مرة أخرى في العام التالي، ولكن الجدال حول هذا الأمر يصبح أكثر صعوبة مع كل عام، وهو ما يؤدي بحسب Schnitzer، إلى انتشار حالة عدم اليقين وهو الامر الحساس بالنسبة للاقتصاد لأن الشركات لا تستطيع وضع خططها للإنتاج والاستثمار اعتمادًا على وعود بدعم غير أكيد.  لهذا يقترح حكماء الاقتصاد إنشاء مرحلة انتقالية بعد حالة الطوارئ، ومن الممكن أن تمتد المرحلة الانتقالية بعد حالة الطوارئ على مدى أربع سنوات، ينخفض ​​خلالها الحد المسموح به للاقتراض الجديد الى 0.5 في المئة. أو ان تمتد على مدى ثلاث سنوات، مع خفض تدريجي لحجم الدين الجديد المسموح به في نهاية الفترة إلى 0.35 في المئة مرة أخرى.

      ثالثًا الدورة الاقتصادية: وفي هذا المقترح يرى حكماء الاقتصاد انه يجب الاعتماد على حالة الاقتصاد في تقرير حجم الديون الجديدة ففي حالة ما كان الاقتصاد يعاني من انكماش او ركود ارتفع الحد المسموح به من الديون الجديدة بما يتيح للحكومة معالجة ضعف الاقتصاد، وعلى العكس من ذلك في حالة تحقيق الاقتصاد لنمو إيجابي فعندها يتم خفض الحد المسموح به للاقتراض الجديد ودفع الحكومة الى الادخار.

     ويواجه تنفيذ أحد مقترحات حكماء الاقتصاد الألماني صعوبات كبيرة، فمن ناحية يتطلب إصلاح نظام كبح الديون أغلبية الثلثين في البرلمان الاتحادي (البوندستاج)، وهي الأغلبية التي لا يتمتع بها الائتلاف الحاكم، ومن ناحية أخرى هناك خلافات داخل الائتلاف الحاكم نفسه حول هذا الموضوع فبينما يؤيد الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر اصلاح كابح الديون يتمسك Christian Lindner ، وزير المالية الاتحادي وزعيم الحزب الديمقراطي الحر بقيود الديون معتبرًا “ان الالتزام بكبح الديون أمر معقول من الناحية الاقتصادية، وإلا فإننا عند مرحلة ما سنضطر إلى وضع خطط تقشف أو زيادة الضرائب لتغطية ديون الماضي فقط”.