تشهد ألمانيا منذ سنوات ارتفعاً مستمراً في أسعار العقارات، وهو ما أدى الى طرح تساؤل حول إذا كان هذا الارتفاع المتواصل يعكس حالة من ارتفاع الطلب الحقيقي وازدهار السوق ام ان الامر يمثل فقاعة مضاربات في السوق لن يمر وقت طويل قبل ان تنفجر، خصوصا بالنظر الى عدة سنوات مضت والى الفقاعة العقارية الكبيرة التي شهدتها الولايات المتحدة الامريكية والتي أدى انفجارها إلى اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008م.

بالتأكيد هناك ارتفاع كبير للطلب على المساكن في ألمانيا نتيجة عدة أسباب منها موجات اللاجئين الأخيرة خصوصا في العام 2015م وما بعده، الى جانب نقص عدد المساكن الجديدة التي يتم بنائها، خصوصا تلك المخصصة للفئات الاجتماعية متوسطة ومحدودة الدخل، بعد تركت الحكومة الاتحادية والعديد من حكومات الولايات مسؤولية البناء لشركات القطاع الخاص الى جانب بيع الدولة العديد من المجمعات السكنية الى شركات خاصة. الا انه وفي نفس الوقت ونتيجة لسريان سعر الفائدة البنكية عند مستوى صفر للمئة في منطقة اليورو منذ مارس العام 2016م، اتجه العديد من المستثمرين، من أبرزهم صناديق الاستثمار وصناديق التقاعد الأجنبية، الى الاستثمار بكثافة في سوق العقارات في المانيا باعتبار الاستثمار في العقارات أحد أكثر الاستثمارات الآمنة وذات العائد المجزي.

مستوى ارتفاع أسعار العقارات في ألمانيا

يستمر ارتفاع الأسعار في سوق العقارات الألماني بزخم مستمر، حيث اظهر تقرير لاتحاد بنوك الرهن العقاري الألمانية (VDP)، أن أسعار العقارات ارتفعت بنسبة 8.8 في المئة في الربع الأول من عام 2022م، مقارنة بالربع الأول من عام 2021م. وبهذا الارتفاع وصل مؤشر أسعار العقارات الخاص باتحاد بنوك الرهن العقاري الى مستوى 190.8 نقطة وهو مستوى قياسي بالمقارنة مع سنة الأساس للمؤشر في العام 2010م والذي يساوي 100 نقطة.

ويعتمد المؤشر على تقييم ربع سنوي لبيانات معاملات العقارات من أكثر من 700 مؤسسة ائتمانية يقوم بها اتحاد البنوك (VDP)، وقال الرئيس التنفيذي لـ VDP، Jens Tolckmitt: «لا يزال سوق العقارات في ألمانيا في حالة صعود، على الرغم من أن جائحة كورونا لم تنته بعد، وكذلك بالرغم من الصدمة المقلقة للغاية التي تسببت بها الحرب الروسية على أوكرانيا «. وأضاف أنه حتى لو لم يكن هناك أي تأثير في الوقت الحالي على سوق العقارات المحلي، يبقى أن نرى إلى أي مدى سيتأثر السوق في الربعين الثاني والثالث من هذا العام.

وقد سجلت العقارات السكنية مرة أخرى أقوى نمو في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، حيث ارتفعت بنسبة 10.7 في المئة في جميع أنحاء ألمانيا. وارتفعت أسعار العقارات التجارية للمرة الثانية على التوالي بنسبة 1.8 في المئة، ومثلت أسعار العقارات المكتبية، التي ارتفعت بنسبة 3.9 في المئة في الربع الأول من عام 2022م مقارنة بالربع المماثل من العام السابق، المحرك الأساسي لأسعار العقارات التجارية بشكل عام. من ناحية أخرى، تراجعت أسعار عقارات مبيعات التجزئة بنسبة 3.2 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.

قطاع البناء وسوق العقارات

سجل قطاع البناء نموا متواصلا حتى خلال عامي ازمة كورونا 2020م-2021م، على العكس من العديد من القطاعات الاقتصادية في المانيا، حيث سجل القطاع نموا سنوياً بما نسبته 3.2 في المئة كما ارتفع عدد العاملين في القطاع خلال نفس الفترة بنسبة 2.4 في المئة. وبحسب ارقام العام 2021م فقد ساهم قطاع البناء بما يساوي 5.9 في المئة من اجمالي الناتج المحلي الإجمالي ونحو 5.8 في المئة من عدد العاملين. وبهذه النسبة يأتي قطاع البناء من حيث الأهمية الاقتصادية قبل قطاعات صناعية مثل قطاع صناعة الآلات والمعدات وقطاع الصناعات الكيميائية.

وبالرغم من هذا الأداء القوي لقطاع البناء الذي كان نتيجة مباشرة للطلب المتزايد على العقارات والمساكن، الا ان اختناقات التسليم ونقص المواد الخام والزيادات الكبيرة في الأسعار نتيجة لزيادة الطلب على مواد البناء مثل الخشب والصلب وغيرها من المواد، الى جانب نقص الموظفين والعاملين المهرة في صناعة البناء أدت الى انخفاض عدد الشقق والمنازل المبينة خلال العام 2021م، وهو الانخفاض الأول مند العام 2011م، حيث تم انجاز بناء ما مجموعه حوالي 293000 شقة جديدة في عام 2021م، وهو ما يقل بنسبة 4.2 في المئة عن عام 2020م. بالرغم من ان تصاريح البناء الجديدة الصادرة في العام 2021م قد بلغت 380736 تصريح وبزيادة بنسبة 3.3 في المئة عن عدد التصاريح الصادرة في العام 2020م، الا ان الشقق والمباني المنجزة يبقى اقل مما تم التصريح به. وكانت الحكومة الألمانية قد وضعت انجاز بناء 400 ألف شقة ومنزل سنوياً كهدف من اجل معالجة النقص المزمن في عدد المنازل والشقق السكنية الذي تعاني منه ألمانيا خصوصا في المدن الكبرى. وقد شمل الانخفاض في المباني السكنية المنجزة في العام 2021م، كل أنواع المباني، حيث انخفض عدد المنازل الجديدة المخصصة لسكن أسرة واحدة العام الماضي بنسبة 10.4 في المئة إلى 78209 منزلًا، وتراجع عدد المنازل المخصصة لسكن العديد من الأسر بنسبة 3.6 في المئة إلى 147925 منزل. كذلك انخفض عدد المنازل المخصصة لسكن عائلتين بنسبة 1.7 في المئة إلى 20118 منزلاً.

حقيقة تضخم أسعار العقارات في ألمانيا

في الفترة الأخيرة تزايدت التحذيرات الصادرة مؤسسات هامة من تضخم أسعار العقارات في ألمانيا في الوقت الحاضر بشكل كبير، خاصة في المدن الألمانية الكبرى، حيث حذر الخبراء في بنك التنمية وإعادة الاعمار KfW من توقع مزيد من الزيادات في أسعار المساكن والايجارات في المدن خلال الفترة القادمة. من جهته أيضا أكد البنك المركزي الألماني في تقريره الشهري الصادر في فبراير 2022م، انه «وفقًا للتقديرات الحالية، كانت الأسعار في المدن لا تزال أعلى بنسبة تتراوح بين 15 و30 في المئة من القيمة التي تشير إليها الأسس السكانية والاقتصادية». وبالنسبة للعديد من مشتري العقارات في المناطق الحضرية، فإن خسارة في قيمة العقار بنسبة 15 في المئة فقط، من شأنها أن تؤدي إلى خسائر فادحة، لأنه خاصة مع العقارات المؤجرة في المدن الكبرى، غالبًا ما يستغرق الأمر عقودًا حتى يتم استرداد سعر الشراء من خلال دخل الإيجار. فإذا انخفضت الأسعار بعد ذلك، يتحول الاستثمار العقاري إلى عمل خاسر.

في مقابل التحذيرات التي يطلقها خبراء البنك المركزي الألماني وبنك إعادة الاعمار عن وجود فقاعة عقارية، يقدم أطلس الإسكان السنوي الذي يعده معهد هامبورغ للاقتصاد الدولي (HWWI) لمصلحة مصرف Postbank توقعات لأسعار الشراء في سوق الإسكان حتى العام 2030م. وتشمل هذه التوقعات التغيرات السعرية للعقارات في المناطق الريفية والمناطق الحضرية.

ووفقا للخريطة الاقتصادية المفصلة لسوق العقارات الألمانية للسنوات القادمة والتي تعقب ازمة كورونا، والتي قدمها معهد هامبورج، فان الطفرة التي شهدها سوق العقارات لم تنته بعد، حيث ستشهد معظم المناطق الألمانية، استمراراً في ارتفاع أسعار المنازل بالقيمة الحقيقية (أي بعد خصم معدل التضخم) حتى نهاية العقد. وعلى وجه التحديد، يتوقع الأطلس السكني، انه يمكن لأصحاب المنازل والشقق في أكثر من نصف المناطق الريفية والمناطق الحضرية البالغ عددها 401 في ألمانيا، أن يفترضوا أن أسعار ممتلكاتهم سترتفع بالقيمة الحقيقية بحلول عام 2030م.

وتتوقع الدراسة أيضًا أن تستمر الأسعار في الارتفاع في أهم سبع مدن كبرى في ألمانيا. وان أكبر ارتفاع سيحدث في أغلى مدينة بالفعل في الوقت الحاضر، مدينة ميونيخ، حيث يتوقع الخبراء زيادة سنوية، بالقيمة الحقيقية، في أسعار العقارات في المدينة بنسبة 2 في المئة تقريباً.

وبشكل عام أصبحت المناطق المحيطة بالمدن الكبيرة جذابة بشكل متزايد كاستثمار. اذ ستنمو أسعار العقارات في هذه المناطق حتى عام 2030م، في المتوسط أعلى بعدة مرات مما هو عليه في مراكز المدن. كذلك تتوقع دراسة معهد هامبورج زيادة في أسعار العقارات أيضًا في المدن الأصغر أو المتوسطة الحجم في جنوب وشمال غرب ألمانيا. الا ان الاطلس السكني يظهر خطر حدوث خسائر في قيمة العقارات، لا سيما في المناطق ذات الاقتصاد الضعيف والمناطق التي تشهد انخفاضا في عدد السكان، وهو ما ينطبق الى حد بعيد على ولايات شرق ألمانيا على سبيل المثال.

الخلاف بين الآراء التي ترى وجود فقاعة عقارية وبين تلك التي ترى ان هناك طفرة حقيقة وازدهار في سوق العقارات مستمر، حيث يرى أنصار وجود الفقاعة العقارية، ومنهم خبراء في مصرف Deutsche Bank احتمالاً كبيراً لحدوث فترة راحة من الطفرة العقارية في بعض المدن الكبرى اعتبارًا من عام 2024م. اعتمادا على ان جائحة كورونا يمكن أن تؤدى الى خفض الهجرة من الخارج، الى جانب رفع سعر الفائدة في منطقة اليورو وبالتالي رفع كلفة القروض وهو ما سيؤدي الى خفض الطلب وبالتالي خفض الأسعار. كما أشاروا إلى أن عدد المباني الجديدة المكتملة من المرجح أن يزداد في السنوات القادمة. أيضا يرى مناصرو التكهن بوجود فقاعة عقارية ان التكاليف المتزايدة لشراء عقار ستؤدي الى عجز الكثيرين عن شراء مساكن خاصة، وبالتالي انخفاض الطلب وتراجع الأسعار، ويشيرون في هذا السياق الى ضريبة نقل العقارات والتي تتراوح بين 4و8 في المئة من قيمة العقار بحسب كل ولاية (تتحصل البلديات هذه الضريبة)، الى جانب رسوم كاتب العدل وتسجيل الأراضي، بالإضافة إلى ذلك، عادة ما تكون هناك عمولات وساطة بين 3.57 و7.14 في المئة، يتحمل المشتري نصفها. كما تستمر البنوك في المطالبة بدفع ما نسبته 10 إلى 20 في المئة مقدما من قيمة أي قرض لشراء عقار. وتشير الدراسات الى انه كان على مشتري العقارات في ألمانيا دفع ما متوسطه 115 ألف يورو قبل الحصول على تمويل لشراء عقار، وهو ما يمثل عقبة امام الكثير من الناس لشراء منزل.

من جهتم يرى أنصار وجود طفرة في سوق العقارات ان ارتفاع أسعار العقارات يرجع أولا الى زيادة الطلب على العرض، اذ وعلى الرغم من ازدياد عدد المنازل والعقارات التي يتم بنائها، فأنها تظل غير كافية، فوفقًا للتقديرات، سيتعين بناء أكثر من 300 ألف شقة كل عام لتلبية الطلب على المساكن في ألمانيا. وفي برلين وحدها، سيتعين بناء حوالي 21 ألف شقة جديدة سنويًا حتى عام 2030م، ووفقًا لمعهد الاقتصاد الألماني (IW). فما يتم بنائه في العاصمة حاليًا لا يتجاوز 17 ألف شقة سنوياً، وفي العديد من المدن الكبرى الأخرى هناك فجوة مماثلة بين الحاجة وعدد المباني الجديدة.

بالنتيجة لا يوجد اجماع بين الخبراء حول ما يشهده سوق العقارات في ألمانيا خلال الفترات الأخيرة وما سيشهده حتى نهاية العقد الحالي، الا ان الثابت الوحيد في هذه المسألة هو ان « توافر السكن للمعيشة في ألمانيا يظل سلعة نادرة».