قام البنك المركزي الأوروبي (ECB)، في 21 يوليو 2022م، برفع سعر الفائدة في منطقة اليورو بواقع 0.50 نقطة مئوية، وذلك للمرة الأولى منذ أحد عشر عامًا. ويأتي رفع سعر الفائدة في إطار مكافحة معدلات التضخم غير المسبوقة التي يعاني منها اقتصاد منطقة اليورو. كما عاد البنك المركزي الأوروبي ورفع سعر الفائدة مرة أخرى في الثامن من سبتمبر 2022م، بمقدار 0.75 نقطة مئوية ليصل سعر الفائدة الإجمالي الى 1.25 في المئة، ويعد هذا الرفع لسعر الفائدة الأعلى على دفعة واحدة منذ اعتماد اليورو الورقي في المعاملات المالية اليومية في منطقة اليورو في العام 2002م. ويأتي تدخل البنك المركزي الأوروبي هذا لمواجه معدلات التضخم المتزايدة حيث وصل معدل التضخم في منطقة اليورو الى مستوى قياسي جديد في أغسطس 2022م، بنسبة 9.1 في المئة وفقا للأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الأوروبي، والمعدل هو الرقم القياسي التاسع على التوالي لارتفاع أسعار المستهلكين في منطقة اليورو حيث بدأ الارتفاع في نوفمبر 2021م. فيما بلغ معدل التضخم في ألمانيا في شهر أغسطس 2022م، 7.9 في المئة وذلك بحسب بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي.

الا ان رفع سعر الفائدة في منطقة اليورو يظل محل جدل بين الخبراء الاقتصاديين، فالبعض ينتقد بطأ تدخل البنك المركزي الأوروبي لرفع سعر الفائدة، باعتباره الوسيلة الأكثر فائدة ونجاحا في مقاومة التضخم، فيما يحذر عدد أخر من الخبراء من ان رفع أسعار الفائدة بدرجة كبيرة قد يتسبب في تراجع الاستثمار والنمو وربما تزداد احتمالية حصول ركود اقتصادي، خصوصا ان سعر الفائدة الصفرية والذي كان سائدا في منطقة اليورو منذ العام 2016م، اظهر نتائج اقتصادية إيجابية في جانب زيادة الاستثمار وتمويل الشركات. الى جانب ذلك فان رفع سعر الفائدة له تأثيرات أساسية، وان كانت متعاكسة، على عدد من القطاعات الاقتصادية الهامة، أبرزها قطاع المصارف ومؤسسات التمويل المالي وقطاع البناء والعقارات.

أثر معدل الفائدة صفر في المئة على الاستثمار والقطاع المصرفي وقطاع العقارات

في 10 مارس 2016م، أعلن الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي (رئيس الوزراء الإيطالي حالياً) حقبة جديدة لأسعار الفائدة في منطقة اليورو، من خلال تأكيده على أن «أسعار الفائدة ستظل منخفضة ومنخفضة جدًا لفترة طويلة من الزمن» وذلك بعد ان اقر البنك خفض سعر الفائدة في منطقة اليورو الى مستوى صفر في المئة، بهدف أن تكون البنوك التجارية قادرة على إعادة التمويل بسعر أرخص من أجل تمرير القروض إلى الاقتصاد وتشجيع الاستثمار. وبالنظر الى الإحصاءات والبيانات فقد نجحت هذه السياسة الى حد ما، وبينما كان الإقراض للشركات والافراد قد استمر في الانكماش والتراجع بداية من عام 2012م إلى عام 2015م، انعكس الاتجاه مباشرة بعد اقرار سياسة صفر في المئة كفائدة، حيث ووفقًا للبنك المركزي الأوروبي، ارتفع حجم الإقراض من 1,2 في المئة سنوياً في مارس 2016م، ليصل بعد عامين الى ثلاثة في المئة.

وبحسب خبراء ماليين فأنه « على الرغم من كل الانتقادات المبررة للسياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي، يتعين على المرء أن يعترف بأن البنك المركزي قد حقق هدفه المتمثل في إنشاء خيارات تمويل ميسورة للشركات، اذ نادرًا ما كانت القروض للشركات رخيصة جدًا ومتاحة للاستثمار والابتكار مثل ما هي الآن ».

الا ان المستفيدين من أسعار الفائدة المنخفضة لم تكن فقط الشركات الخاصة، بل ايضا استفادت وبشكل كبير البلدان المثقلة بالديون في منطقة اليورو مثل إيطاليا، ويعد هذا أحد الأسباب في أن سياسة القروض الرخيصة تثير الجدل إلى حد كبير في الاوساط المالية الأوروبية، وانتقادات عدد من ابرز المصرفيين مثل يينس فايدمان، الرئيس السابق للبنك المركزي الألماني، الذي حذر من أن الدول يجب ألا تعتمد على أسعار الفائدة المنخفضة على المدى الطويل، وان على السياسة النقدية للبنك المركزي الاوروبي أن تحافظ على مسافة بعيدة عن تمويل الدولة النقدي، مؤكداً انه «إذا افترض السياسيون أن البنوك المركزية ستضمن في نهاية المطاف استدامة الدين الوطني، فقد تتراكم ديون إضافية وبالتالي تزيد الضغوط على ميزانيات الدول. وهنا تظهر المخاوف من تصاعد المطالب بأن على نظام اليورو إلغاء الديون على الدول الأعضاء ».

من جانب أخر أوضح مايكل ستابيل، الخبير الاقتصادي في البنك التعاوني الألماني DZ أثر معدل الفائدة المنخفض على سوق العقارات «بالطبع، كان يمكن للمقترضين على وجه الخصوص، والافراد الذين يحصلون على قرض لشراء العقارات او بناء المنازل أن يكونوا سعداء بشكل خاص بشأن الحصول على مستوى سعر فائدة منخفض للغاية «. وإذا تم النظر فقط إلى أسعار الفائدة على الرهن العقاري خلال فترة الفائدة الصفرية، فإن المشترين للمنازل والعقارات كانوا يتمتعون بظروف رائعة وفي المتوسط كانوا يدفعون أقل بكثير من فائدة واحد في المئة. لكن الامر في نفس الوقت، عكس نفسه على ارتفاع أسعار العقارات المتواصل منذ سنوات بسبب اتجاه صناديق التأمين والتقاعد والأفراد للاستثمار في العقارات.

كما أدى ذلك وضمن الظواهر المالية التي ارتبطت باستمرار معدل الفائدة عند صفر بالمئة، الى ظهور مصطلح «الذهب الخرساني»، والذي يعد ظاهره متعلقة بارتفاع غير حقيقي في أسعار العقارات يتجاوز قيمتها الحقيقية (فقاعة عقارات)، فنظرًا لأن الادخار التقليدي لم يعد مجديًا، كان المستثمرون يبحثون عن فرص ومجالات جديدة لاستثمار الفوائض المالية، وكان قطاع العقارات أحد هذه المجالات المجزية، وقد أدى هذا إلى ارتفاع كبير في أسعار العقارات في السنوات لأخيرة، خصوصا في المدن الكبيرة.

الا ان اهم قطاع اقتصادي تأثر بسعر الفائدة الصفري كان القطاع المصرفي في منطقة اليورو، حيث تراجعت ربحية هذا القطاع بشكل كبير، يتضح ذلك من خلال الأرقام الصادرة من البنك المركزي الأوروبي، حيث كافحت البنوك الكبرى في منطقة اليورو خلال الفترة التي ساد فيها معدل الفائدة الصفري بشكل متزايد مع ضعف الأرباح، اذ انخفض ما يسمى بالعائد على حقوق الملكية للمؤسسات المصرفية إلى 1,53 في المئة فقط في الربع الرابع من عام 2020م، بينما كان في العام 2019م، عند مستوى 5,16 في المئة. (يوضح هذا المعدل قيمة حصة الأرباح في رأس المال المستخدم.) ويعزو البنك المركزي الأوروبي حقيقة أن ربحية البنوك قد انخفضت بشكل حاد إلى جائحة كورونا الى جانب الصعوبات المتزايدة على المؤسسات المصرفية في جني الأرباح مع استمرار انخفاض أسعار الفائدة.

الى جانب ذلك تواجه المصارف الأوروبية إشكالية القروض المتعثرة والتي على الرغم من تراجعها إلى 2,63 في المئة في الربع الرابع من عام 2020م، بعد ان كانت 3,22 في المئة في نفس الفترة من العام 2019م. الا ان هنالك ما يقرب من 444 مليار يورو من هذه القروض المتعثرة لا تزال عالقة في الميزانيات العمومية للمصارف الأوروبية.

ومع انخفاض ربحية المصارف والمؤسسات المالية الأوروبية قامت العديد من المؤسسات المالية بتحميل الأعباء على العملاء، حيث قام أكثر من 300 بنك ومؤسسة توفير بفرض ما يعرف برسوم الحفظ او (الفائدة السلبية) على أموال المودعين بداية من الحسابات التي تتجاوز 50 ألف يورو. وعلى الرغم من الإيجابيات والفوائد التي حققها معدل الفائدة الصفري الا ان الخبراء الماليين ظلوا يحذرون من انه كلما طالت فترة أسعار الفائدة المنخفضة، زادت خطورة الآثار الجانبية غير المرغوب فيها وزادت صعوبة تغيير مسارها.

أثار رفع سعر الفائدة (التضخم، الاستثمار، سوق العقارات والقطاع المصرفي)

بعد قيام البنك المركزي الأوروبي (ECB)، برفع أسعار الفائدة في منطقة اليورو، وهو الرفع المتوقع ان يستمر لمواجهة معدلات التضخم العالية، فانه من المنتظر حدوث العديد من الاثار الاقتصادية لهذا الرفع، منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي. في الجانب الإيجابي من رفع أسعار الفائدة يتوجب ان يؤدي ذلك الى خفض التضخم وفق ألية لا تعتمد على مواجهة دوافع التضخم، مثل حرب أوكرانيا أو سلاسل التوريد المعطلة، لكن اعتمادا على ان رفع سعر الفائدة يثبط الطلب الكلي بجعل الائتمان أكثر تكلفة، وبما يؤدي لتراجع الفائدة من الاستثمار وتراجع إنفاق الشركات والافراد مما يقود في النهاية الى خفض الأسعار وخفض معدل التضخم.

الى جانب ذلك يجب أن تدعم أسعار الفائدة المرتفعة اليورو الضعيف، الذي تراجعت قيمته الى أقل من الدولار الأمريكي في أسواق الصرف الأجنبي للمرة الأولى منذ عام 2002م، نتيجة لذلك، سيتم إيقاف ما يسمى «استيراد التضخم»، حيث يتم تسعير السلع المهمة مثل النفط بالدولار وبالتالي تصبح أكثر تكلفة باليورو عندما ينخفض سعر الصرف مقابل العملة الأمريكية. في سوق البناء والعقارات فان رفع أسعار الفائدة وبالتالي رفع كلفة قروض البناء والإسكان سيؤدي الى الحد من الطلب الى جانب التعامل مع منح قروض الإسكان بشكل أكثر صرامة، وبالنتيجة فان كبح الاتجاه التصاعدي في أسعار العقارات السكنية يصبح ممكناً.

من جهة أخرى تظهر العديد من السلبيات الناتجة عن رفع أسعار الفائدة، من أبرزها التأثير على سوق الأوراق المالية، حيث تميل زيادات أسعار الفائدة إلى إبطاء تطور أسعار الأسهم حيث ان رفع الفائدة يؤدي الى إعاقة النمو الاقتصادي وخفض مستوى اعمال الشركات وبالتالي فان له تأثير سلبي على أرباح الشركات وأسعار الأسهم. كما يمكن للاقتصاد أن ينزلق إلى الركود إذا تم رفع أسعار الفائدة أكثر من اللازم. بالإضافة إلى ذلك، تؤثر أسعار الفائدة المرتفعة على تكاليف التمويل والاقراض في دول اليورو، والذي سيؤدي الى تحميلها بأعباء إضافية سواء من ناحية رفع كلفة خدمة الديون الحالية او رفع كلفة الديون الجديدة وهو ما يمكن ان يتسبب في حدوث أزمة أخرى في الدول الأعضاء المثقلة بالديون مثل إيطاليا. حتى مع سعي البنك المركزي الأوروبي الى إطلاق برامج مساعدات لحماية دول الاتحاد ذات مستوى الديون العالية.

في القطاع المصرفي ومؤسسات التمويل المالي وبعد رفع سعر الفائدة، ووفقًا لدراسة أجرتاها شركة PwC للاستشارات، فإن إيرادات البنوك الألمانية وارباحها من الأعمال المالية سيتضاعف خلال العام الحالي بثلاثة أضعاف ليصل إلى 3.3 مليار يورو. وستصل في العام القادم 2023م، الى 14.8 مليار يورو، وفي العام 2024م، الى 12.6 مليار يورو. والى جانب هذا المستوى من الأرباح، يظهر مديرو البنوك الألمانية ارتياحهم من التخلص من أسعار الفائدة السلبية وأيضًا إزالة رسوم الحفظ لعملائهم.

الا انه ومع التفاؤل الذي تظهره البنوك الألمانية من زيادة الاعمال وارتفاع الإيرادات بعد التحول في أسعار الفائدة، تسود أيضا المخاوف من حدوث ركود اقتصادي، نتيجة الخشية من عدم توفر امدادات كافية من الغاز الطبيعي او من اثار الحرب في أوكرانيا، حيث انه في حال ما حدث ركود اقتصادي فان حالات التخلف عن سداد القروض سوف ترتفع بشكل حاد. إذ يحذر Martin Faust، أستاذ الإدارة المصرفية في مدرسة فرانكفورت للتمويل والإدارة، من أن الركود سيحبط الآثار الإيجابية لتحول أسعار الفائدة. حيث «ستزيد مخصصات خسائر القروض بشكل كبير، وستكون هناك أيضًا تعديلات على قيمة استثمارات البنوك الخاصة». في سيناريو الركود الاقتصادي، يرى Faust «أن المخاطر تواجه مؤسسات الائتمان التي تمول مطوري العقارات بشكل كبير. بالإضافة الى ان القطاع يعاني من ارتفاع تكاليف البناء بسبب التضخم »، ويشير Faust ايضاً الى ان العديد من بنوك الادخار والبنوك التعاونية قامت بتوسيع أعمالها في مجال التمويل العقاري بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.

من وجهة نظر Magdalena Stoklosa، الخبيرة المالية في مؤسسة الخدمات المالية والاستثمارية الأمريكية Morgan Stanley، فإنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الآثار الإيجابية لتحول أسعار الفائدة ستفوق الآثار السلبية للتخلف عن سداد القروض بالنسبة للبنوك. من حيث المبدأ، فإن ارتفاع أسعار الفائدة قد عمل على « تغيير قواعد اللعبة» بالنسبة للمؤسسات المالية الأوروبية. حيث تؤكد Stoklosa «منذ إدخال أسعار الفائدة السلبية، انخفضت ربحية القطاع المصرفي الأوروبي بشكل كبير». حيث «لم يكن أي بنك يمتلك نموذج أعمال مناسب لمثل هذا السيناريو».

وفي سياق متصل، أظهرت دراسة لوكالة التصنيف الائتماني موديز، أن البنوك الكبيرة في ألمانيا ستستفيد أكثر من ارتفاع أسعار الفائدة مقارنة بالمؤسسات المالية الصغيرة التي تركز على العملاء من القطاع الخاص. وقال Bernhard Held الخبير المصرفي في الوكالة «نتوقع أن تستفيد البنوك الأكبر في ألمانيا لأن آثار إعادة تسعير معدلات الإقراض ستعوض الزيادة في تكاليف التمويل والمخاطر». من ناحية أخرى، تمتلك البنوك الأصغر نسبة كبيرة نسبيًا من القروض العقارية بأسعار فائدة ثابتة وطويلة الأمد في ميزانياتها العمومية، ووفقًا لدراسة موديز، سيمر وقت طويل قبل أن تجري هذه البنوك تعديلات على الأسعار. هذا بالإضافة الى ان البنوك الصغيرة غالبًا ما تستثمر ودائعها الزائدة في السندات طويلة الأجل بأسعار فائدة منخفضة نسبيًا والتي فقدت جزء من قيمتها الآن بسبب ارتفاع أسعار الفائدة في السوق.

في غضون ذلك دعا عضو مجلس إدارة البنك المركزي الألماني Joachim Wuermeling، المؤسسات المالية إلى توخي الحذر. مؤكداً على أن «التحول في أسعار الفائدة إيجابي للقطاع المصرفي الألماني على المدى المتوسط ، لكنه سيؤدي في البداية إلى أعباء على العديد من البنوك». حيث سيؤدي ارتفاع أسعار الفائدة في السوق، الى ان تصبح إعادة تمويل البنوك أكثر تكلفة، بينما تستمر القروض منخفضة الفائدة في الوقت الحالي. بالإضافة إلى ذلك، انخفضت قيمة العديد من الأسهم والسندات في الميزانيات العمومية للبنوك. ومع ذلك، يجب أن يتحسن وضع الأرباح على المدى المتوسط إلى الطويل، نتيجة لتحول أسعار الفائدة. وقال Wuermeling: «وفقًا لتحليلاتنا، يمكن أن يتوقع 90 في المئة من البنوك آثارًا إيجابية في العام الثاني بعد رفع أسعار الفائدة».

علاوة على ذلك، سيؤدي رفع أسعار الفائدة وارتفاع ربحية البنوك الألمانية الى تقليص الفجوة بينها وبين البنوك الأوروبية الأخرى في هامش الربحية، حيث ان القطاع المصرفي الألماني، وبحسب Lutz Diederichs رئيس فرع ألمانيا لبنك (BNP)، أكبر بنك فرنسي، يتأثر بشدة بأعمال الودائع، وبالتالي فهو يعتمد أيضًا بشكل كبير على تطورات أسعار الفائدة. ويضيف Diederichs «في السياق الأوروبي، لم تكن السوق المصرفية الألمانية هي الأقوى في السنوات الأخيرة». ولكن بفضل التحول في أسعار الفائدة، فإنه سيكون بإمكانها الآن «اللحاق بالركب ».