يتّجه الاتّحاد الأوروبيّ نحو تعزيز السياسات وتشديد التشريعات المتعلقة بالاستدامة (Sustainability) من خلال إلزامِ الشركات المحلية والشركات العالمية الراغبة في دخول السوق الأوروبيّة معاييرَ حماية البيئة والدمج الاجتماعيّ والحوكمة الرشيدة (ESG: Environment, Social and Governance Indicators). من المتوقَّع أن تتبنى أكثر من مائتي ألف شركة تحولات داخلية، على صعيد استراتيجياتها وأنظمتها ومنتجاتها، للتأقلم مع هذه السياسات، في سبيل الحفاظِ على استمراريتها ونجاحها ومصداقيتها.

تعوّدَ رواد الأعمال، لعقود خلتْ، قياسَ نجاح شركاتهم تبعًا فقط لمعايير مراكمةِ الأرباح والإيراداتِ، ونموِّ المبيعات فحسب، وكان ذلك النجاحُ كفيلا بفتح أبواب الاستثمار والفرص أمامهم. أما اليوم، فقد اختلف هذا الواقع، إذ أصبحت معايير الاستدامة المرتبطة بالأثر البيئيّ والاجتماعيّ وحوكمة الشركات أساسية في دراسة أهلية شركة معيّنة، مهما بلغ حجمها، لتلقي الاستثمار من جهة، والتمتّعِ بقَبول اجتماعي من جهة أخرى. فما الدافع وراء هذه التغييرات؟ وكيف ستؤثر على شكل الشركات وإداراتها؟

بدأ مفهوم الأثر البيئي والاجتماعي وحوكمة الشركات بالتطور مع ازدياد الاهتمام بالقضايا البيئية والاجتماعية، في ظلّ بروز مفهوم التأثير الأخلاقي للاستثمارات في ستينيات القرن الماضي وسبعينيّاته. شكّلت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ الناتجة من قمة الأرض في ريو دي جانيرو (1992)، واتفاقية كيوتو (1997) المكمّلة لها، صكّيْ الالتزامِ الدوليّ الأوّليْن في شأنِ الاستجابة الجدية لمخاطر التغيّر المناخي. وبالنتيجة، أطلقت الأمم المتحدة عام ألفين ميثاقا عالميا غيرَ ملزم لتشجيع الشركات حول العالم لتبني الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية في عملياتها، والتزامِ عشرة مبادئ تشمل حقوق الإنسان والعمل والبيئة ومكافحة الفساد. كان الميثاق المحاولة الأولى نحو تقديم تقارير توثق هذا الالتزام من قبل الشركات. وبعد أن كانت الجهود غير ملزمة ومبعثرة لسنوات، أتتِ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 لتربط المفهوم الحقوقي والبيئي بالحاجة الاقتصادية والمالية الملحة لضمان حوكمة شفافة ومستدامَة للشركات. وبالتالي، تكاملت الصورة لتؤكد ضرورةَ اتّباع إطار متكامل يلتزم الاستدامة لا كخيارٍ مسؤول تجاه المجتمع والمستقبل فقط، بل بوصفه ضمانةً لنمو الشركات وإدارتها للمخاطر ومحافظتها على قدرتها التنافسيّة في الأسواق العالمية.

تشكّل معايير الأثر البيئي والاجتماعي وحوكمة الشركات، اليومَ، مجموعة من الإجراءات والقوانين التي ينبغي للشركات التزامُها. في إطار الاتحاد الأوروبي، استُحدثتْ سّلة من الإجراءات أبرزها تنظيم الإفصاح المستدام في التمويل (SFDR) المعنيّ بتشكيل إطارٍ منظمٍ يدفع المؤسسات المالية إلى التصريح بكيفية إدماجهم معاييرَ الأثر البيئي والاجتماعي والحوكمة في اختيار وجهة استثماراتهم. إضافة إلى ذلك، يحدّد التصنيف الضريبيّ للاتحاد الأوروبي، الذي اعتُمد في حزيران/يونيو 2020، أساسات تصنيف الأنشطة الاقتصادية بحسب استدامتها البيئية، وذلك تبعًا لتأثيرها على كلّ من الأهداف البيئية الستّة التالية: مكافحة تغير المناخ، والتكيّف مع تغير المناخ، والاستخدام المستدام للموارد، وحماية الموارد المائية والبحرية، والانتقال إلى اقتصاد دائريّ ومنع التلوث والسيطرة عليه، وحماية النظم البيئيّة بتنوعها البيولوجيّ، واستعادتها.

يستمر هذا الإطار التنظيمي بالتطور، على نحو سريع، بهدف جعله منظومة متكاملة، مُلزمة ومُشجعة، توحّد الممارسات المستدامة بيئيًّا والعادلة اجتماعية والشفافة في إدارتها عملياتِ جميع الشركات الناشطة ضمن الاتحاد الأوروبي. في ظل هذا التسارع، أصبحت الشركات في سباق من أجل التأقلم وإعادة تشكيل نماذجها والاستجابة إلى التوقعات المتغيرة لمختلف الجهات المعنية بأعمالها. لم تعد الشركاتُ، اليومَ، مسؤولة أمام المساهمين والمستثمرين فحسب، بل توسّع إطار الدائرة المعنية بأداء الشركة ليتضمن العملاء والمشرّعين، والمجتمعات المحلية، والجمعيات البيئية والدولية.

يضع هذا التغيّر الشركات أمام خيارين، إما مقاومته ما يؤخّرها عن تطوير نماذجها ويضعها أمام مخاطر خسارة الاستثمار والقبول المجتمعي وعدم إدارة المخاطر البيئية بشكل استباقيّ بما في ذلك من تبعات مادية، وإمّا قيادة المسار التغييري وبناء نماذج ريادية، كلّ في مجاله، ترسم بذلك مستقبلَ الأعمال، وأيضًا مستقبلَ علاقتنا مع الأرض ومواردها.

90٪ من الشركات تحتاجُ إلى تغيير أنشطتها التجارية الأساسية للعمل في اقتصاد مستدام حقًّا.

يخبّئُ الحديثُ عن تغيّر جذريّ في شكل الأنشطة التجارية وحوافزها وعملياتها الإدارية، في طياتِه، الكثيرَ من عدم اليقين والتردّد والغموض، خصوصًا لناحية تصوّر الخطوات العملية المرافقة لهذه العملية. لذلك، ينبغي للشركات مقاربةُ التحوّلِ من الناحية الاستراتيجية وإدخالُه في البِنية الأساسية للشركة. بذلك، تُصبح الممارسات المستدامة بديهية، طبيعية وسلسة، وتصبح فلسفة الشركة الاجتماعية ونموذجها الاقتصادي المربح متناغميْن ومتكامليْن، بدلًا من أن تغرق، على الدوامِ، في التنافس والتضارب.

نستعرض أدناه الأساسات الأربعة التي تضمن تحوّلا سلسا ومرِنا ومتناغما نحو شركات مستدامة ومُربحة وعادلة.

خطوةً خطوةً، نحو شركاتٍ مستدامةٍ ومُربحةٍ وعادلةٍ

– توجّه استراتيجي متكامل: تتجلّى الخطوة الأولى نحو تحسين الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات «ESG» بقناعة صنّاع القرار الحقيقية بهذه الخيارات كضرورة استراتيجية للشركة لا كواجب قانوني أو فرض إجرائي. وبالتالي، يقوم رواد الأعمال بإدماج تلك المعايير في الخطةِ والتوجّهِ الاستراتيجيّ للشركة. يتعدّى ذلك استخدام العناوين الرنانة، وتبنّي القيم المناسبة، ليتضمن أهدافا وخطوات شاملة وملموسة ومحدّدة زمنيًّا وقابلة للقياس تتجاوب مع مختلف الجوانب المحدّدة ضمن معايير الـ «ESG». يُنصح أوّلا بتقييم شامل للاستدامة في الشركة لتحديد الموقع الحالي على سلّم الممارسات المطلوبة، وتختار الشركات، غالبًا، الاستعانة بخبراء مختصين لتوجيه المسار وتقديم الدعم اللازم.

– أداءٌ ماليّ مستدام ومحصّن: يستحيل أن تنجح الشركات في هذا المسار التحوليّ من دون القناعة بأن اعتمادَ ممارسات مستدامة خيارٌ ماليٌّ صائب وذكي. يساعد اعتماد هذه المعايير على خفض التكاليف خصوصًا في شأنِ الطاقة، وإدارة الموارد الفعالة، وتقليل توليد النفايات، وتقليل استهلاك الموارد. كما يضمن اعتمادُ هذه الممارسات الكفاءةَ التشغيلية للشركات والتخفيف من أخطار الحوادث في أثناء العمل والطوارئ الصحية والتكاليف ذات الصلة. علاوة على ذلك، تُسهّل تلك المعايير الوصولَ الأسهل للاستثمار ورؤوس الأموال خصوصًا مع التوجّه العالمي الذي يركّز على الاستثمار الأخلاقيّ. لذلك، على الشركات إعادة تعريف مؤشراتها المالية وتحديد مؤشرات قياس جديدة لتوفير نظرة أشملَ لأداء الشركة وأثرها.

– دافع نحو تصميم منتجات مستدامة ومبتكرة: صُمّمتْ معاييرُ الـ «ESG» من أجل دفع الشركات نحو التفكير بالتصميم الموجّه نحو المستقبل؛ ونعني العملَ على منتجات تستجيب لحاجات مستقبلية. وبذلك، تكون للشركات حوافز تدفعهم نحو الابتكار في مجال التكنولوجيا المستدامة والطاقة المستدامة. أصبحت هذه الممارسات مهمّة أيضًا في نظر المستهلك الذي يبحث عن شركات تُترجم التزاماتها الاجتماعية والبيئية حتى في ما خصّ طبيعة منتجاتها.

– دافع نحو تصميم منتجات مستدامة ومبتكرة: صُمّمتْ معاييرُ الـ «ESG» من أجل دفع الشركات نحو التفكير بالتصميم الموجّه نحو المستقبل؛ ونعني العملَ على منتجات تستجيب لحاجات مستقبلية. وبذلك، تكون للشركات حوافز تدفعهم نحو الابتكار في مجال التكنولوجيا المستدامة والطاقة المستدامة. أصبحت هذه الممارسات مهمّة أيضًا في نظر المستهلك الذي يبحث عن شركات تُترجم التزاماتها الاجتماعية والبيئية حتى في ما خصّ طبيعة منتجاتها.

نماذج تستَبق المخاطر وجاهزةٌ للمستقبل

ختامًا، تسعى معايير الأثر البيئي والاجتماعي وحوكمة الشركات إلى دفع رواد الأعمال نحو العمل من أجل تلبية حاجات المستقبل، وليس فقط الاستجابة إلى واقع اليوم. بذلك، تهيِّئهم هذه المعاييرُ لتنظيم عملياتهم فيصيرون محصّنين في مواجهةِ كوارثَ طبيعية وبيئية واقتصاديةِ، محتملةٍ ومتوقعة علميًّا. فوائد هذا التوجّه غير محصورة بتفادي خسائرَ مادية فقط، بل إنه يدفعهم إلى العمل بعقلية تضمن بقاءَهم في سوق الغد، وجهوزيتَهم لتلبية حاجاته. وبذلك، تكون هذه المعايير محورية في بناء مستقبل قابل للعيش، مستدامٍ وصحيٍّ وعادلٍ، يزدهر فيه قطاع خاصّ مستدام، متطوّر تكنولوجيًّا ومتأقلمٌ مع حاجاته المستجدّة.

 

Beyond Group شركة عالمية متخصصة في مجال الاستشارات الاستراتيجية في مجالات الاستدامة والإدارة والسياسات العامة ذات فروع وشراكات في ألمانيا وقبرص وجورجيا والسعودية ولبنان.

– جيلبير ضومط: مدير عام شركة Beyond Group

– عمر عبدالصمد: مدير إقليمي للمنطقة الأوروبية في شركة كومبيتوس Kompetus Management Consulting GmbH (عضو في مجموعة Beyond Group)