تتمتع ألمانيا بواحد من أفضل أنظمة الرعاية الصحية في العالم وهو ما تم إثباته الى حد بعيد خلال جائحة كورونا حينما عانت العديد من الدول في العالم، حتى المتقدمة منها، من صعوبات في تقديم الرعاية الصحية الكافية لمواطنيها بينما استطاع النظام الصحي في ألمانيا من تجاوز الجائحة بل وتقديم المساعدة لعدد من الدول الأوروبية من خلال استقبال وتقديم الرعاية الصحية للعديد من المرضى من هذه الدول في المستشفيات الألمانية.

يتميز نظام الرعاية الصحية الألماني بالعديد من العناصر المتنوعة بداية من عدد الأطباء والمستشفيات مرورا بكليات الطب المتنوعة ومراكز الأبحاث الطبية وانتهاءً بصناعة الادوية والمستحضرات الصيدلانية وصناعة المعدات والتجهيزات الطبية. كل هذه العناصر تسهم في تكوين نظام الرعاية الصحية في ألمانيا وضمان جودته. الا ان ذلك لا يعني ان هذا النظام لا يعاني من عيوب او صعوبات تؤثر على قدرته على تأدية وظائفه بالمستوى المطلوب. وهو ما انعكس في مقترحات من وزير الصحة في الحكومة الاتحادية لإصلاح نظام الرعاية الصحية.

البنية الاساسية لنظام الرعاية الصحية الألماني

لا يعتمد نظام الرعاية الصحية في ألمانيا على عدد المنشآت او المباني وحجمها بقدر ما يعتمد على العنصر البشري من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات والباحثين والباحثات، وفي هذا الجانب تحقق ألمانيا مراكز متقدمة على المستوى الأوروبي والعالمي. فمن ناحية عدد الأطباء العاملين سجلت الجمعية الطبية الألمانية حوالي 421.300 طبيب وطبيبة عاملين في جميع أنحاء ألمانيا في نهاية عام 2022م، ويؤشر هذا العدد من الأطباء الى استمرار الارتفاع في عدد الأطباء في السنوات الأخيرة، فبالمقارنة مع العام 1990م، عام تحقيق الوحدة الألمانية، ارتفع عدد الأطباء العاملين بأكثر من 65 في المئة. وهو ما يعني ايضًا ازدياد كثافة الأطباء في ألمانيا بشكل مستمر في السنوات والعقود الأخيرة، حيث بلغ المعدل الوطني في عام 2022م، لعدد الأطباء مقارنة بعدد السكان الى وجود طبيب لكل 198 مقيمًا في ألمانيا، أي أكثر من ضعف المعدل المسجل في عام 1980م. ويعمل هؤلاء الأطباء، بحسب بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي نهاية العام 2022م، في 1893 مستشفى، الى جانب ما يقرب من 99658 عيادة طبية بحسب بيانات الاتحاد الألماني لأطباء التأمين الحكومي (KBV). بالإضافة الى ذلك بلغ إجمالي الطلاب المسجلين لدراسة الطب البشري في ألمانيا في العام الدراسي 2022/2023م، 108.130 طالبًا، منهم 69.597 طالبة، يدرسون في 36 جامعة حكومية وأربع جامعات خاصة داخل ألمانيا. كما بلغ عدد العاملين في قطاع الرعاية الصحية في ألمانيا من ممرضين وممرضات ومهن طبية وإدارية مساعدة من مختلف التخصصات ما مجموعة 1.25 مليون شخص بحسب ارقام العام 2021م. وهو ما يمثل زيادة بنسبة 9 في المئة عما كان علية عددهم في العام 2017م.

ويوجد في ألمانيا ست مراكز رئيسية متخصصة للأبحاث الصحية هي مركز بحوث الامراض المعدية (DZIF)، مركز ابحاث القلب والاوعية الدموية (DZHK)، مركز امراض الرئة (DZL) بالإضافة الى مركز الامراض التنكسية العصبية (DZNE) ومركز أبحاث مرض السكري (DZD). وتتوزع هذه المراكز وفروعها على أكثر من 80 موقعا في ألمانيا وتتعاون في مجال الأبحاث مع أكثر من مائة مؤسسة مختلفة ما بين جامعة ومستشفيات جامعية ومؤسسات بحثية غير جامعية.

الانفاق على النظام الصحي

بحسب أحدث بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي (Destatis)، ارتفع الإنفاق على الصحة في ألمانيا في عام 2021م، إلى 474.1 مليار يورو وهو ما يساوي 5699 يورو لكل فرد. وبهذا يكون نصيب الفرد من الإنفاق على الصحة قد ارتفع بشكل عام بنسبة 7.5 في المئة مقارنة بالعام السابق، وهو أعلى مستوى منذ بدء الحسابات في عام 1992م. كما ارتفع الإنفاق على الصحة في عام 2021م، بنحو 33.1 مليار يورو بالمقارنة مع عام 2020م، العام الأول لجائحة كورونا. وبلغت حصة قطاع الصحة في الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا في العام 2021م، 13.2 في المئة بزيادة 0.2 نقطة مئوية عما كانت عليه في عام 2020م.

ما يزال التأمين الصحي الحكومي أكبر مصدر للإنفاق في نظام الرعاية الصحية في ألمانيا في عام 2021م، بحصة من الإنفاق تبلغ 53.8 في المئة، حيث بلغ إنفاق شركات التأمين الحكومية 255.2 مليار يورو، بزيادة 5.7 في المئة أو ما يساوي 13.7 مليار يورو عما كان عليه في عام 2020م. وأنفقت المنظمات الخاصة غير الربحية 60.2 مليار يورو على التأمين الصحي، أو ما نسبته 12.7 في المئة من اجمالي الانفاق الصحي في ألمانيا في عام 2021م. وبذلك تمثل ثاني أكبر مصدر لنفقات الرعاية الصحية. وبالمقارنة بالعام السابق، فقد أظهرت زيادة في الإنفاق بنسبة 5.3 في المئة أو ما يعادل 3 مليار يورو. ويشكل التأمين على الرعاية الاجتماعية الطويلة الأجل 10.9 في المئة من الإنفاق الصحي. ومقارنة بعام 2020م، سجلت زيادة في الإنفاق بنسبة 9.5 في المئة أو ما يساوي 4.5 مليار يورو لتصل إلى 51.7 مليار يورو. وارتفع إنفاق التأمين الصحي الخاص بنسبة 3.7 في المئة أو ما يساوي 1.3 مليار يورو ليصل إلى 36.7 مليار يورو. لتشكل نفقات شركات التأمين الصحي الخاص ما نسبته 7.7 في المئة من إجمالي نفقات الرعاية الصحية في ألمانيا.

وقد بلغت النفقات الصحية المتعلقة بجائحة كورونا نحو 30.6 مليار يورو في عام 2021م، بعد ان كانت تبلغ في العام 2020م، 18.2 مليار يورو. وكان أكبر بند إنفاق هنا، وبقيمة 9.9 مليار يورو وحصة 32.3 في المئة من نفقات كورونا، هو الإنفاق على الاختبارات وفحص الفيروس في المستشفيات أو مرافق الرعاية أو العيادات. وهذا لا يشمل ما يسمى بالاختبارات الذاتية التي اشترتها الأسر من متاجر البيع بالتجزئة أو الصيدليات. وبلغ إجمالي مدفوعات التعويضات عن فقدان الدخل المرتبط بالجائحة والتي تم تقديمها من المستشفيات أو مرافق الوقاية وإعادة التأهيل أو مقدمي العلاج الطبي، حوالي9.3 مليار يورو وبنسبة 30.6 في المئة من اجمالي نفقات كورونا. وبلغت تكلفة حملة التطعيم التي بدأت نهاية ديسمبر 2020م، ما يقرب من 7 مليار يورو في عام 2021م، أي 22.9 في المئة من النفقات المتعلقة بكورونا.

بالنسبة لعام 2022م، واستنادًا إلى الأرقام الأولية، يقدر حجم الإنفاق على نظام الرعاية الصحية بمبلغ 498.1 مليار يورو. وسيكون ذلك أكثر بمقدار 24 مليار يورو أو 5.1 في المئة عما كان عليه في عام 2021م. فيما ستستمر النفقات المتعلقة بجائحة كورونا، بلعب دور مهم في زيادة الإنفاق على الصحة.

التحديات التي تواجه النظام الصحي الألماني

تعاني المستشفيات في ألمانيا من زيادة أعباء النفقات التشغيلية وتراجع الإيرادات وهو الامر الذي زاد بدرجة كبيرة خلال العام الماضي 2022م، وهو ما دعا جمعية المستشفيات الألمانية (DKG) الى التحذير من ان 60 في المئة من المستشفيات ستسجل خسائر مالية خلال العام 2022م، وان هنالك احتمال لحدوث موجة افلاس للعديد من المستشفيات خلال العام 2023م. واظهر مسح أجراه معهد المستشفيات الألماني (DKI) ان 56 في المئة من المستشفيات في ألمانيا تتوقع تدهور الوضع الاقتصادي أكثر في عام 2023م، فيما تتوقع 17 في المئة فقط من المستشفيات تحسنًا في أوضاعها الاقتصادية و 27 في المئة يتوقعون أن يظل الوضع دون تغيير.

وبالرغم من أن برنامج المساعدات الحكومي الخاص بوضع سقف أعلى لأسعار الكهرباء والغاز سيكون مفيدا للمستشفيات الا انها لن تكون كافية لتعويض العجز بسبب الزيادات في التكاليف العامة المرتبطة بالتضخم، حيث يتوقع ان يصل العجز في النفقات التشغيلية للمستشفيات في عام 2023م، إلى حوالي 15 مليار يورو. هذا الى جانب النقص المستمر في العاملين في المستشفيات، وخاصة في التمريض، اذ كانت 90 في المئة من المستشفيات تواجه في العام 2022م، مشكلة في ملء وظائف التمريض الشاغرة في الأجنحة العامة، وبالمقارنة بالعام السابق، ارتفع عدد وظائف التمريض الشاغرة في الأجنحة العامة من 14400 إلى 20600 وظيفة.

ويعود تدهور الأوضاع الاقتصادية للمستشفيات الألمانية خلال العام الماضي والمتوقع استمراراه خلال العام الحالي الى توقف المساعدات الحكومية الخاصة بكورونا الى جانب ان نقص العاملين في المستشفيات أدى الى تراجع عدد الحالات التي يتم التعامل معها وبالتالي تراجع الإيرادات، هذا الى جانب ارتفاع تكاليف الطاقة وأثر التضخم في ارتفاع الأسعار.

وبسبب هذه الاوضاع تطالب المستشفيات بزيادة التمويل الحكومي والحصول على مزيد من الأموال واجراء إصلاحات على النظام الصحي بما يمكن هذه المستشفيات من الاستمرار في العمل وتقديم خدمات الطبابة بالمستوى المطلوب. وتأتي هذه الطلبات بالرغم من ان الجزء الأكبر من الانفاق الصحي في ألمانيا يذهب للمستشفيات، إذ وفقاً لاتحاد شركات التأمين الحكومية GKV تعد تكاليف خدمات المستشفيات هي أكبر بند إنفاق في ميزانية التأمين الصحي الحكومي لسنوات، حيث يذهب حوالي كل ثالث يورو إلى المستشفيات. وتتزايد التكاليف من سنة إلى أخرى، فبعد ان كانت هذه التكاليف قد بلغت في العام 2017م، حوالي 75 مليار يورو وصلت إلى أكثر من 85 مليار يورو في عام 2021م. وبلغت تكاليف العلاج في المستشفيات في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2022م، حوالي 65 مليار يورو بينما كانت عند مستوى 63 مليار يورو خلال نفس الفترة من العام السابق. الى جانب ذلك قدمت الحكومة الاتحادية تعويضات عن فقدان الدخل بسبب تأجيل أو تعليق العمليات والعلاجات المخطط لها للمستشفيات التي خصصت أسرة لمرضى فيروس كوفيد-19 بلغت 22 مليار يورو، وقد انتهى هذا البرنامج في أبريل من العام 2022م.

وفي هذا الجانب تحذر جمعية المستشفيات الألمانية من موجة من حالات الإفلاس في النصف الثاني من عام 2023م، حيث تتوقع الجمعية ما يصل إلى 100 حالة إفلاس مستشفى في عام 2023م وحده. ولهذا تتزايد المطالبات من الأطباء والسياسيين بإجراء إصلاحات هيكلية على نظام عمل المستشفيات في ألمانيا. وقد خلُصت دراسة أجرتها مؤسسة برتلسمان (Bertelsmann Stiftung) في العام 2019م، الى توصية حكومات الولايات الفيدرالية، المسؤولة الأولى عن النظام الصحي في الولايات، بأغلاق جزء كبير من المستشفيات في ألمانيا، خصوصا المستشفيات الصغيرة والتي لديها أقل من 250 سريرًا. حيث يتميز نظام المستشفيات في ألمانيا « بالسعة الزائدة والتخصص غير الكافي. بالإضافة الى ان مستوى الرعاية الحالي ليس فقط متضخم ومكلف، بل يتم أيضًا رعاية المرضى بجودة أقل من اللازم». وتقترح الدراسة تخفيض عدد المستشفيات الى 600 مستشفى فقط. في الواقع، وبالمقارنة مع بقية دول الاتحاد الأوروبي يوجد عدد كبير نسبيًا من أسرة المستشفيات في ألمانيا، حيث يبلغ المتوسط 60.2 سريرًا لكل 10000 نسمة، بينما ووفقاً لمكتب الإحصاء الأوروبي، يبلغ المتوسط في دول الاتحاد الأوروبي 39.3 سريراً لكل 10000 مواطن.

مشروع اصلاح نظام الرعاية الصحية الألماني

مع ارتفاع مخاطر افلاس العديد من المستشفيات وتزايد الشكوى من تراجع جودة الخدمات الطبية المقدمة من البعض منها قدم وزير الصحة الاتحادي Karl Lauterbach خطة لإصلاح نظام عمل المستشفيات يتضمن تغيير الألية التي تنظم حصولها على تمويل للخدمات التي تقدمها وكذلك وضع نظام لتقييم جودة الخدمات التي تقدمها ووضع تصنيف من ثلاث مستويات لهذه المستشفيات. كما دعا Lauterbach الى خفض عدد المستشفيات في ألمانيا وتركيز تقديم خدمات الطبابة على عدد محدد من المستشفيات الكبيرة ذات الإمكانيات الكافية من أطباء وممرضين ومن تجهيزات طبية مختلفة بدلا من الوضع القائم والذي توجد فيه العديد من المستشفيات الصغيرة التي تواجه صعوبات في توفير الكوادر الطبية اللازمة لتقديم الخدمات.

وبعد أشهر من المفاوضات، اتفقت الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات الفيدرالية في شهر يوليو 2023م، على نقاط رئيسية مشتركة لإصلاح المستشفيات. وهو ما اعتبره وزير الصحة الاتحادي Lauterbach “إنه نوع من الثورة”. وقد صوتت 14 ولاية فيدرالية لصالح المشروع وامتنعت ولاية Schleswig-Holstein عن التصويت، بينما صوتت ولاية Bayern ضده.

وتتمثل النقطة الرئيسية في المشروع في تغيير نظام دفع التعويضات المالية عن الخدمات التي تقدمها المستشفيات، فبدلا من النظام الحالي والقائم على وضع سعر ثابت ومحدد مسبقا لكل خدمة تقدم للمرضي وبالتالي يعتمد حجم أموال التعويضات على عدد المرضي الذين يتلقون خدمات الطبابة في المستشفيات، فان النظام الجديد المقترح يري ان تحصل المستشفيات بشكل مبدئي على 60 في المئة من حجم التعويضات بناء على حفاظها على مستوى الخدمات المقدمة سواء من ناحية حجم الكوادر الطبية ذات الخبرة من أطباء وممرضين أو من ناحية توفر التجهيزات اللازمة من معدات وأجهزة طبية بغض النظر عن عدد المرضى الذين تلقوا هذه الخدمات. وأكد وزير الصحة الاتحادي انه بهذا النظام الجديد «لم تعد المستشفيات مضطرة إلى تقديم العلاج الى أكبر عدد ممكن من المرضى»، او القيام بأجراء عمليات او اية إجراءات طبية ليست لها الخبرة الكافية لتنفيذها لتضمن الحصول على التعويضات المالية الكافية لاستمرارها في العمل، وانه تم القضاء على « الضغوط المالية الناجمة عن الاضطرار إلى قبول المزيد والمزيد من الحالات «.

وتتركز النقطة الأساسية الثانية في المشروع في اصدار قانون «الشفافية» الذي سيتم من خلاله نشر بيانات حول جودة العلاج في جميع المستشفيات في عام 2024م. والهدف من هذا القانون هو جعل مستويات الرعاية المختلفة المقدمة من المستشفيات واضحًا للمرضى، وهي المهمة التي ستتولاها الحكومة الاتحادية. حيث سيتم تصنيف المستشفيات في ثلاث مستويات، بداية من المستوى الأول من المستشفيات التي تقدم الرعاية الأساسية مرورا بالمستوى الثاني والذي يشمل المستشفيات التي تقدم خدمات متميزة في إحدى التخصصات الطبية ووصولا الى المستشفيات التي تقدم المستوى الأعلى من الخدمات الطبية مثل المستشفيات الجامعية.

ومن المتوقع ان يتم إقرار المشروع في البرلمان الألماني (البوندستاج) وأن يدخل حيز التنفيذ في بداية يناير 2024م. على ان يتم بعد ذلك منح الولايات الفيدرالية الوقت لتنفيذ القانون. وقال Lauterbach إن نظام التعويضات المالية الجديد يمكن أن يدخل حيز التنفيذ في عام 2026م، على أقرب تقدير. وإلى أن يدخل المشروع حيز التنفيذ فعلياً، فإن العديد من المستشفيات المتعثرة سوف تعاني من الإفلاس. ونظراً لضيق ميزانية الحكومة الاتحادية، فإنه لا يتوقع الحصول على المزيد من الأموال التي يمكن أن تمنع ذلك.