يعتبر القطاع الصناعي العمود الفقري للاقتصاد الألماني، حيث يساهم بما يقارب ال 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر ملايين فرص العمل، فضلاً عن كونه رافعة رئيسية للصادرات الألمانية. وتشتهر ألمانيا بصناعاتها المتقدمة في مجالات السيارات، والمعدات الصناعية، والإلكترونيات، والتقنيات الطبية، ما يمنحها موقعًا رياديًا على الساحة الاقتصادية العالمية. غير أن هذا الموقع المتميز يرافقه تحدٍّ بنيوي كبير، يتمثل في اعتماد القطاع الصناعي على استيراد المواد الخام والمعادن النادرة، والتي تعتبر مكونات أساسية في عمليات الإنتاج. وتحذر العديد من التقارير والدراسات الحديثة من أن الصناعات الألمانية الأساسية والتي تعتمد بشكل كبير على سلاسل التوريد العالمية والمواد الخام القادمة من الخارج، ستواجه تهديدًا خطيرًا لقدرة ألمانيا على التفوق الاقتصادي والتنافس الصناعي، خاصة في ظل الاضطرابات الجيوسياسية وبوادر الحروب التجارية.

تزايد اعتماد ألمانيا على استيراد المواد الخام والمواد الصناعية الأولية

مع تزايد الازمات والتحديات الجيوسياسية خلال السنوات الأخيرة والتي منها على سبيل المثال جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والحرب في الشرق الأوسط والتوترات بين الصين وتايوان بالإضافة الى تزايد مخاطر نشوب حروب تجارية وانتشار السياسات الحمائية والتي تمثل سياسة الرسوم الجمركية التي تتبعها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ابرز مثال عليها، أسبابًا لتزايد المخاوف حول أمان سلاسل التوريد ومدى تبعية واعتماد ألمانيا والشركات الألمانية على عدد محدود من الدول والموردين لتزويدها بالمواد الخام والمواد الصناعية الأولية.

وبحسب دراسة جديدة أجرتها شركة Deloitte للاستشارات فان اعتماد الشركات الألمانية على استيراد المواد الخام الهامة مثل الليثيوم والسيليكون والكوبالت وكذلك المنتجات الصناعية الأولية مثل البطاريات وأشباه الموصلات قد زادت خلال العشر السنوات الماضية.

وتؤكد الدراسة أيضًا ان سلاسل التوريد لنحو نصف الشركات الألمانية تأثرت في عام 2023م بندرة المواد الخام، وكان ثلاثة أرباع هذه الشركات قد تأثرت أيضًا بارتفاع أسعار المواد الخام. كما ارتفعت مخاطر اضطراب سلاسل التوريد للشركات في ألمانيا فعلى سبيل المثال في حال تصاعد الصراع بين الصين وتايوان او حدوث كوارث طبيعية في البلدين فان ذلك «سيؤثر على 24 في المئة من واردات ألمانيا من كربونات الليثيوم و41 في المئة من واردات بطاريات الليثيوم و33 في المئة من واردات أشباه الموصلات والشرائح الإلكترونية».

وتتفاوت درجة اعتماد ألمانيا على المواد الخام والمواد الصناعية المختلفة فمثلا تعتمد ألمانيا على 70 في المئة من وارداتها من مادة كربونات الليثيوم والتي تستخدم في صناعة الالمونيوم من دولتين هما تشيلي بنسبة 47 في المئة والصين بنسبة 24 في المئة والتي كان نصيبها من واردات ألمانيا من هذه المادة لا يتجاوز نسبة واحد في المئة العام 2013م. ويرتفع اعتماد ألمانيا في وارداتها من بطاريات الليثيوم من الصين الى 41 في المئة بعد ان كانت هذه النسبة تصل قبل عشر سنوات الى 27 في المئة فقط. في أشباه الموصلات والشرائح الالكترونية تعتمد ألمانيا على وارداتها من أسيا بشكل كبير حيث تحصل على 23 في المئة من حاجتها من هذه المواد الصناعية الأولية من تايوان و13 في المئة من ماليزيا و10 في المئة من الصين و8 في المئة من الفلبين وكذلك نفس النسبة من تايلند.

غير أن التحديات لا تقتصر على احتكار الصين لإنتاج العديد من المعادن النادرة، بل تشمل أيضًا التحديات أيضا الاعتماد المفرط أيضا على دول من ضمن الدول الغربية، وهي الولايات المتحدة، ففي حال تصاعد الحرب التجارية، يواجه الاتحاد الأوروبي أيضًا اعتمادًا صناعيًا مقلقًا على السوق الأمريكية. فعلى سبيل المثال، يشير تقرير صادر عن شركة «Prior1» المتخصصة في مراكز البيانات إلى أن مزودي الخدمات الأمريكيين يسيطرون على ما بين 65 و72 في المئة من القدرات السحابية الأوروبية، وهي ضرورية لتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة (Industrie 4.0)، وفي حال فقدان هذه القدرات فجأة، ستضطر ألمانيا لتعويض ما يصل إلى 1200 ميجاواط من الطاقة المعلوماتية الإضافية، أي ما يعادل 40 في المئة من إجمالي السعة الحالية.

كما توضح دراسة أعدتها شركة Prognos للاستشارات، وجود تبعية مرتفعة للعديد من الصناعات الرئيسية تجاه دول قد تستخدم هيمنتها الاقتصادية لأغراض سياسية، سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل القريب. فعلى سبيل المثال، تعتمد ألمانيا وأوروبا بنسبة 100 في المئة على واردات المعادن المشتقة من التيتانيوم المستخدمة في الصناعات الدفاعية، ويأتي الإمداد من دول مثل كازاخستان وروسيا، أما المغناطيسات الدائمة اللازمة لتوربينات طاقة الرياح، فيُستورد أكثر من 90 في المئة منها من الصين.

ورغم استهلاك أوروبا نحو 20 في المئة من الإنتاج العالمي للرقائق الدقيقة، فإنها تنتج محليًا أقل من 10 في المئة. ويزداد الاعتماد الخارجي خاصة في الرقائق الحديثة المستخدمة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي تُصنّع غالبًا في تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة. وتوضح هذه الأرقام حجم الاعتماد الذي يربط الصناعة الألمانية بالتجارة العالمية الحرة وسلاسل الإمداد المستقرة. وفي ظل التوترات الجيوسياسية وتغير موازين القوى الاقتصادية العالمية، تبرز الحاجة الماسة لوضع استراتيجيات جديدة تُعزز مرونة الاقتصاد الألماني وتقلل من التبعية المفرطة للخارج، حفاظًا على مكانة ألمانيا التنافسية ودورها الريادي في الصناعة العالمية.

وتزداد اعتمادية ألمانيا على بعض المعادن والمواد الخام الى درجة كبيرة خصوصا في المعادن التي تحتكر الصين انتاجها ويشمل ذلك بدرجة رئيسية الجاليوم والجرمانيوم، اللذان يعتبران عنصرين مهمين لصناعة أشباه الموصلات والتي تعتمد ألمانيا بنسبة 83 في المئة من واردتها من هذين المعدنين على الصين، بالإضافة إلى المواد الخام النادرة مثل براسيوديم، نيوديميوم، تيربيوم وديسبروسيوم، والتي تشكل جزء أساسيًا لا يستغنى عنه في تصنيع المحركات الكهربائية وتوربينات الرياح والتي تبلغ نسبة احتكار الصين لإنتاج وتجارة هذه المواد نسبة 87 في المئة.

ولا تقتصر الهيمنة الصينية على التعدين فقط، بل تمتد بشكل أكبر إلى التكرير والمعالجة المتقدمة. فوفقًا لبيانات شركة Tradium لتجارة المواد الخام، تستحوذ الصين على 92 في المئة من عمليات التكرير و94 في المئة من إنتاج المغناطيسات عالية الكفاءة المستخدمة في السيارات الكهربائية والتوربينات الهوائية. ويؤكد البرفسور Christoph Helbig، أستاذ تكنولوجيا الموارد البيئية في جامعة Bayreuth، أن «حتى الخامات المستخرجة في مناطق أخرى غالبًا ما تُرسل أولًا إلى الصين للمعالجة قبل دخولها الأسواق العالمية».

كما يبقى العامل الاقتصادي الحاسم هو الفارق الكبير في الأسعار. إذ تقدم الصين المواد المعالجة بأسعار منخفضة للغاية نتيجة تفوقها التكنولوجي وتكامل سلاسلها الصناعية، ما يجعل البدائل الأوروبية أو اليابانية أقل جاذبية تجاريًا. ويشير Helbig، إلى أن «الاستثمار في مسارات إنتاج بديلة وسلاسل توريد جديدة كان دائمًا غير جذاب اقتصاديًا، وهو ما أعاق جهود التنويع».

وتمثل الإشكالية في احتكار الصين لإنتاج العديد من المواد الخام والمعادن النادرة في إمكانية استخدامها في بعض الأحيان من قبل الحكومة الصينية في الصراعات الجيوسياسية ويظهر ذلك جليا من خلال تقييد الصين المؤقت لصادراتها من الجاليوم والجرمانيوم بداية من أغسطس2023م لعدة أشهر وهو ما أدى الى نقص كبير في المعروض من هذين المعدنيين في الأسواق لمدة أربعة أشهر، ويعود عدم حدوث أزمات خطيرة في صناعة أشباه الموصلات إلى ان الشركات اليابانية الكبيرة المصنعة لأشباه الموصلات كانت قد قامت ببناء مخزون كاف من هذين المعدنيين مسبقًا.

حالياً، ومنذ فرض الصين قيودًا جديدة على تصدير عدد من المعادن النادرة والمنتجات الأولية الوسيطة بداية من ابريل 2025م، في رد فعل على الرسوم الجمركية العالية التي فرضتها الولايات المتحدة على وارداتها من الصين. تراجعت وتيرة وصول هذه المواد الخام الأساسية إلى المصانع الأوروبية، الأمر الذي أدى إلى إبطاء خطوط الإنتاج، لاسيما في القطاعات التي تعتمد على العناصر النادرة في تصنيع المغناطيسات والمحولات الحفزية. وقد تناول وزير الخارجية الألماني يوهان فاديبول القضية خلال لقائه نظيره الصيني في شهر يوليو 2025م، حيث أكد أن «القيود الأحادية وغير الشفافة على صادرات العناصر النادرة تثير قلقًا بالغًا لدى الحكومة الألمانية وشركاتها».

البدائل الممكنة لخفض الاعتماد على استيراد المعادن النادرة (نموذج اليابان)

تغيرت أنماط الحروب التجارية في العقدين الأخيرين بشكل ملحوظ. فلم تعد الرسوم الجمركية هي الأداة الوحيدة، بل تحولت قيود التصدير إلى وسيلة ضغط استراتيجية، وتعد الصين أبرز مثال في هذا الإطار والتي تستغل موقعها المهيمن في سوق العناصر الأرضية النادرة. وقد استخدمتها بكين بالفعل قيود التصدير هذه عام 2010 في خلافها مع اليابان، حين أوقفت مؤقتًا تصدير مواد خام استراتيجية.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت اليابان رائدة في تنويع مصادر المواد الخام وضمان استقرار سلاسل التوريد، وهو درس لا يزال الاتحاد الأوروبي في طور استيعابه. فالتأخير الحالي في إصدار تراخيص التصدير الصينية للعناصر النادرة – التي تُعد ضرورية لصناعة السيارات الألمانية – يكشف بوضوح حجم اعتماد أوروبا على الصين.

أدركت اليابان مبكرًا خطورة الاعتماد المفرط على الصين، فأسست وكالة وطنية مختصة بالموارد هي منظمة اليابان للأمن في مجال المعادن والطاقة (JOGMEC). هذه المؤسسة لم تكتفِ بتأمين التمويل للمشروعات، بل تولت أيضًا إدارة المخاطر والتنسيق الدبلوماسي. وبين عامي 2004 و2020 استثمرت الوكالة أكثر من 600 مليون دولار في أكثر من مئة مشروع عالمي، ما مكن اليابان من خفض اعتمادها على الصين في العناصر النادرة من 90 في المئة إلى 58 في المئة خلال عقد واحد فقط.

إحدى المحطات المفصلية تمثلت في عقد شراكة مع شركة التعدين الأسترالية «Lynas» عام 2011، حيث وفرت الوكالة اليابانية تمويلًا كبيرًا مكّن الشركة من أن تصبح أكبر منتج للعناصر النادرة خارج الصين، لتغطّي نحو ثلث احتياجات السوق اليابانية. إلى جانب ذلك، وضعت طوكيو أهدافًا واضحة لتخزين المواد الحرجة تصل إلى 180 يومًا من الاستهلاك، كما طورت تقنيات التعدين الحضري لاستخلاص العناصر النادرة من النفايات الإلكترونية.

كذلك ستستثمر اليابان نحو 1.26 مليار يورو حتى عام 2028م في مشاريع التعدين البحري العميق، بعد اكتشاف احتياطات ضخمة قرب جزر أوغاساوارا، رغم التحديات التقنية والمخاوف البيئية. كما ساهم القطاع الخاص أيضًا في خفض اعتماد اليابان على استيراد المعادن النادرة، حيث طورت شركة «هوندا» مغناطيسات جديدة لا تحتاج إلى العناصر النادرة الثقيلة، وهو ابتكار يخفف الاعتماد على الموارد المستوردة.

لم يقتصر الأمر على المواد الخام، بل امتد إلى مجال الطاقة. فقد استثمرت اليابان أكثر من 1.5 مليار دولار في تطوير خلايا شمسية من نوع «البيروفسكايت»، التي تُعد أخف وأرخص وأكثر مرونة من الألواح التقليدية القائمة على السيليكون – وهو قطاع تهيمن الصين على إنتاجه عالميًا. ولم تكتف اليابان بالابتكار الداخلي، بل عززت أيضًا تعاونها الدولي، خصوصًا عبر الشراكة الدولية لأمن سلاسل التوريد المعدنية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأستراليا. هذه الاستراتيجية المزدوجة – الجمع بين دعم الابتكار الوطني وبناء شراكات دولية قوية – تقدم نموذجًا واضحًا يمكن لألمانيا وأوروبا الاستفادة منه.

وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي أسس حديثًا لجنة للمواد الخام الحرجة (CRMA)، إلا أنها ما تزال تفتقر إلى الصلاحيات التنفيذية والموارد المالية المماثلة للنموذج الياباني، إذ إن آليات التمويل الأوروبية تبقى مجزأة وبطيئة، خصوصًا فيما يتعلق بالاستثمارات المبكرة في مناطق عالية المخاطر مثل إفريقيا وأمريكا اللاتينية. ويذهب الخبراء الى انه لا يتعين على أوروبا نسخ التجربة اليابانية بالكامل، لكنها بحاجة إلى مؤسسة مركزية تتمتع بسلطات واسعة قادرة على الاستثمار في الاستكشاف، وتخفيف المخاطر، وتوجيه الموارد إلى المشاريع الحيوية.

إن تحقيق الأهداف الاستراتيجية لألمانيا والاتحاد الأوروبي في إطار الصفقة الخضراء والتحول الرقمي وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي يستلزم تعزيز مستويات الاستقلالية الاقتصادية، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون تبني سياسة متكاملة لتأمين المواد الخام الحرجة. وتبرز التجربة اليابانية بوصفها مثالاً دالاً على أهمية الجمع بين تطوير القدرات الابتكارية الداخلية من جهة، وبناء شراكات خارجية متينة من جهة أخرى، باعتبار ذلك المسار الأمثل لمواجهة التحديات المرتبطة بندرة الموارد وضمان استدامة التنمية.

ويوجه العديد من الخبراء انتقادات للنهج السائد في الصناعة الألمانية، حيث يرون أن التفاؤل المفرط بشأن انتظام تدفقات المواد الخام والمواد الأولية يشكل نقطة ضعف بنيوية. كما يشيرون إلى أن غالبية الشركات الألمانية لا تبادر إلى إنشاء مخزونات استراتيجية كافية ولا تعتمد استراتيجيات متقدمة لإدارة المخاطر، باستثناء بعض الحالات المحدودة. ويؤكد هؤلاء بأن الكلفة الإضافية المترتبة على بناء مخزونات استراتيجية تظل أقل بكثير من الخسائر المحتملة الناجمة عن توقف الإنتاج نتيجة اضطراب الإمدادات.

وفي مواجهة هذه التحديات، سعى الاتحاد الأوروبي إلى وضع إطار تشريعي يحد من الاعتماد المفرط على الواردات الخارجية، وذلك من خلال قانون المواد الخام الحيوية. ووفقاً لهذا القانون، يتعين ألا يتجاوز اعتماد الاتحاد بحلول عام 2030 على دولة واحدة من خارج الاتحاد نسبة 70 في المئة من إجمالي احتياجاته السنوية من المواد الخام الاستراتيجية، بما يضمن تنويع مصادر التوريد وتعزيز متانة القاعدة الاقتصادية الأوروبية.