يعد النقل والخدمات اللوجستية قطاعا حيويا واساسيًا لضمان النمو الاقتصادي وتعزيز تنافسية وكفاءة القطاعات الاقتصادية المختلفة، وتزداد أهمية هذا القطاع في الدول التي تمثل فيها التجارة الخارجية والتصدير مكونا رئيسيا في هيكل اقتصادها كما هو الحال في ألمانيا التي تمثل الصادرات نحو 40 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي. حيث تعمل البنية التحتية اللوجستية عالية الكفاءة على زيادة القدرة التنافسية الدولية للصناعة الألمانية والتجارة الخارجية. والى جانب الوظيفة الاقتصادية الهامة التي يؤديها قطاع الخدمات اللوجستية فانه أيضا بحد ذاته يمثل قطاعا اقتصاديا كبيرا من ناحية الإيرادات وأيضا من ناحية مساهمته في سوق العمل والتوظيف وأحد أهم محركات النمو الاقتصادي.

الأهمية الاقتصادية لقطاع النقل والخدمات اللوجستية

تنشط شركات قطاع الخدمات اللوجستية والنقل في مجالات الشحن والنقل والتخزين والمناولة والتعبئة، وتشكل معًا ثالث أكبر قطاع اقتصادي ألماني بعد صناعة السيارات وتجارة التجزئة وهي تتقدم على صناعة الإلكترونيات وصناعة المعدات والآلات. وتعمل أكثر من 70 ألف شركة في مجال الخدمات اللوجستية، معظمها متوسطة الحجم. ويعمل في شركات القطاع أكثر من 3 ملايين موظف.

حققت شركات القطاع في العام 2022م، ايرادات بقيمة حوالي 319 مليار يورو ويتوافق هذا مع نمو بنحو 8.5 في المئة مقارنة بإيرادات شركات القطاع في العام 2021م، وان كان جزء من هذا النمو ناتج عن ارتفاع الأسعار على طول سلاسل التوريد. كما تبلغ قيمة سوق الخدمات اللوجستية الأوروبية 1,180 مليار يورو (بحسب ارقام العام 2021م). وتمتلك ألمانيا حصة حوالي 25 في المئة. ولا يرجع ذلك فقط إلى موقعها الجغرافي في قلب أوروبا ولكن أيضا بسبب جودة البنية التحتية والتكنولوجيا اللوجستية.

لكن صناعة الخدمات اللوجستية الألمانية القوية تواجه أيضًا تحديات عديدة، منها على سبيل المثال، نقص حاد في الموظفين في مجال العمليات، مثل سائقي الشاحنات. وأيضا مدى ملائمة وسائل النقل البري مع اهداف حماية البيئة والمناخ باعتبارها من الوسائل الأكثر تلويثا للمناخ. كذلك يمثل تراجع القدرة التنافسية للموانئ البحري في ألمانيا مقارنة بعدد من الموانئ المجاورة في أوروبا تحديًا اساسيًا امام قطاع الخدمات اللوجستية.

البنية التحتية لقطاع النقل البري والموانئ البحرية

تتمثل البنية الأساسية لقطاع النقل والدعم اللوجستي في طول شبكة الطرق البرية وخطوط السكك الحديدية وعدد الموانئ والمطارات وحجم البضائع المنقولة بواسطة طرق ووسائل النقل المختلفة والتي تشمل الطرق البرية والبحرية والنهرية والجوية. ومع التنوع الواسع لوسائل النقل ومجالات الخدمات اللوجستية الا ان النقل البري للبضائع والسلع عبر الشاحنات والموانئ البحرية يمثلان أهم وسائل النقل وقطاعات الخدمات اللوجستية، فمن جهة يمثل النقل البري عبر الشاحنات اهم وسيلة للنقل في ألمانيا حيث يتم نقل 70 في المئة من البضائع والسلع داخل وخارج ألمانيا عبرها وأيضا هو الوسيلة الأساسية لنقل البضائع بين ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي. من جهة أخرى تمثل الموانئ البحرية الوسيلة الأكبر والاهم في تصدير واستيراد السلع بين ألمانيا وشركائها التجاريين خارج الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وبقية دول العالم.

النقل البري عبر الشاحنات

تعد هذه الخطوط الأكثر كثافة وقدرة على نقل السلع والبضائع، ويبلغ الطول الإجمالي لشبكة الطرق المعبدة المنتشرة في ألمانيا نحو (244.470 كيلو متر) من ضمن هذه الطرق المعبدة ما يقرب من 13 ألف كيلو متر هو الطول التقريبي لشبكة الطرق السريعة في ألمانيا فيما تتوزع 232 ألف كيلو متر تقريبا ما بين طول الطرق بين الولايات وبين شبكات الطرق الإقليمية في إطار كل ولاية، وتسير على الطرقات الألمانية ما يقرب من 48.76 مليون سيارة شخصية حتى تاريخ 1 يناير 2023م، كما بلغ عدد شاحنات النقل حوالي 3.64 مليون شاحنة في نفس التاريخ، وللمقارنة كان عدد الشاحنات في ألمانيا في العام 1960م لا يتجاوز 681 ألف شاحنة.

وبحسب بيانات المكتب الاتحادي للإحصاء فقد بلغ حجم البضائع والسلع التي نقلتها الشاحنات الألمانية والأوروبية من والى ألمانيا وداخلها في العام 2022م، ما يقرب من 3.1 مليار طن. وهو ما يمثل 70 في المئة تقريبا من حجم البضائع والسلع المنقولة في ألمانيا في ذلك العام.التحديات التي تواجه النقل البري عبر الشاحنات

يعد النقص المتزايد في سائقي الشاحنات التحدي الاكبر امام استمرار فعالية وكفاءة النقل والدعم اللوجستي عبر الشاحنات ففي الوقت الحاضر هنالك نقص بحوالي 100 ألف سائق شاحنة في ألمانيا. ويتوقع ان تزيد حدة المشكلة في المستقبل القريب حيث وبحسب بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي القائمة على ارقام العام 2021م، فان ما نسبته 35 في المئة من اجمالي سائقي الشاحنات في ألمانيا يتجاوز عمرهم 55 عاما على الأقل وهو ما يعني انه خلال السنوات القليلة القادمة سوف تتقاعد نسبة كبيرة من هؤلاء. كما يعني أن نسبة الفئة العمرية 55 فما فوق بين سائقي الشاحنات أعلى بكثير منها بين القوى العاملة ككل والتي تبلغ في المهن الأخرى في المتوسط 25 في المئة. في المقابل ايضًا، فإن عدد الموظفين الجدد الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا صغير جدًا حيث لا يشكلون سوى 3 في المئة فقط. وبالمقارنة أيضا مع متوسط بقية المهن في سوق العمل يشكل الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا ما يقرب من 10 في المئة من مجموع العاملين. كما أن نسبة النساء في هذه المجموعة المهنية منخفضة بشكل ملحوظ حيث تبلغ 3 في المئة فقط، بينما تبلغ في سوق العمل بشكل عام 47 في المئة.

ويرجع نقص العمالة الحاد في قطاع النقل البري بالشاحنات أولا الى التغير الديموغرافي في ألمانيا وزيادة شيخوخة المجتمع الى جانب عدم جاذبية المهنة بسبب الرواتب المتدنية في البداية وأيضا للتكاليف العالية التي تتطلبها عملية التأهيل للوظيفة، وحتى وان تحملت الشركات هذه التكاليف عن موظفيها فستبقى المهنة غير جاذبة للأجيال الجديدة بسبب عدم الاستقرار والتنقل المستمر وضعف هيكل الرواتب والأجور.

كما تسهم الإجراءات البيروقراطية الحكومية في عرقلة توظيف شركات النقل والدعم اللوجستي الألمانية لسائقين من دول خارج الاتحاد الأوروبي، فعلى سبيل المثال يطلب من سائقي الشاحنات من دول مثل جورجيا وكازخستان الحصول على مؤهل من احدى مؤسسات التدريب في ألمانيا قبل العمل في احدى الشركات الألمانية بينما لا يفرض عليهم هذا الشرط في دول أوروبية أخرى مثل بولندا او لتوانيا، مما يعني ان هؤلاء السائقين يستطيعون قيادة الشاحنات التابعة لشركات أوروبية على الطرق الألمانية لكنهم لا يستطيعون فعل ذلك اذا ما كانت الشركة ألمانية.

كذلك تبدوا الحلول التقنية المتقدمة مثل الشاحنات ذاتية القيادة غير واقعية بالنظر الى الوقت الطويل اللازم لتطوير هذه التقنية والوصول بها الى مستوى الكمال والموثوقية قبل السماح باستخدامها على نطاق واسع والاعتماد عليها في استمرار كفاءة وتنافسية قطاع النقل والدعم اللوجستي الألماني.

وتتمثل الحلول الممكنة أولا في رفع جاذبية مهنة سائقي الشاحنات عبر تعديل هيكل الأجور ورفع الرواتب خصوصا في البداية بالإضافة الى تحمل الدولة او شركات النقل تكاليف التأهيل والتدريب، علاوة على تحسين ظروف العمل وجعلها أكثر ملائمة قدر الإمكان للأسرة. كذلك تقليل الإجراءات والاشتراطات الخاصة بالاعتراف بمؤهلات سائقي الشاحنات من دول خارج الاتحاد الأوروبي بما يمكن شركات النقل الألمانية من توظيف سائقين أجانب بسرعة وبدون تعقيد كما هو الحال في لتوانيا وبولندا. هذا بالإضافة الى الاستثمار المكثف في التقنيات الجديدة المختلفة بداية من تقنيات خفض استهلاك الوقود ومعايير السلامة الى تقنية القيادة الذاتية.

القدرة اللوجستية للموانئ الألمانية

تعد الموانئ واحدة من اهم الأدوات الاقتصادية اللازمة لضمان واستدامة دوران العجلة الاقتصادية من حيث كونها البوابة الرئيسية التي تدخل منها المواد الاولية والبضائع والسلع وكذلك وفي نفس الوقت، الأداة التي يتم من خلالها تصدير منتجات الاقتصاد المحلي، هذا فضلا عن كون الموانئ البحرية تمثل في حد ذاتها قطاعا اقتصاديا مستقلا مهما يوفر العديد من الوظائف ويساهم أيضا في رفع الناتج المحلي الإجمالي، وتزداد أهمية الموانئ في ألمانيا اعتمادا على كون ألمانيا واحدة من اكبر مصدري السلع والبضائع في العالم وان الاقتصاد الألماني يعتمد بشكل كبير في نموه على الصادرات مما يتطلب قدرة لوجستية عالية للموانئ الألمانية. وتنتشر الموانئ الألمانية على ساحلي بحرين تطل عليهما ألمانيا وهما بحر الشمال وبحر البلطيق.

في عام 2022م، تم تداول 275 مليون طن من البضائع في الموانئ البحرية الألمانية. ووفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الاتحادي (Destatis) انخفض حجم البضائع التي يتم مناولتها في الموانئ البحرية الألمانية بنسبة 3.2 في المئة في عام 2022م، مقارنة بالعام السابق، حيث انخفضت كمية البضائع الواردة من الخارج (-1.5 في المئة) أقل بكثير من كمية البضائع المرسلة إلى الخارج (-7 في المئة). ومقارنة بمستوى ما قبل أزمة كورونا في عام 2019م، عندما تعاملت الموانئ البحرية الألمانية مع 293.5 مليون طن من البضائع، انخفض حجم مناولة البضائع في عام 2022م، بنسبة 4.9 في المئة.

كان ولايزال أهم ميناء بحري ألماني لمناولة البضائع هو ميناء هامبورج بحجم مناولة بلغ 103.4 مليون طن العام 2022م(-7.2 في المئة أقل مقارنة بالعام السابق)، يليه ميناء بريمرهافن والذي تعامل مع 42.8 مليون طن من البضائع وبنسبة تراجع بنحو 8.7 في المئة مع العام السابق من ثم يأتي ميناء فيلهلمسهافن الذي تمت مناولة 31.8 مليون طن من البضائع فيه بزيادة 7.6 في المئة مقارنة بالعام الذي سبق، وجاء ميناء روستوك على بحر البلطيق في المركز الرابع بين اكبر موانئ ألمانيا حيث تمت مناولة 21.3 مليون طن وهوما يمثل تراجع بنسبة 3.2 في المئة مقارنة بالعام الذي سبق كما تم مناولة حوالي 16.4 مليون طن في ميناء لوبيك على بحر البلطيق في العام 2022م، وهو ما يمثل أيضا انخفاضا عن حجم البضائع التي تم مناولتها في الميناء في العام 2021م بنسبة 6.9 في المئة.

على مستوى الدول التي تم تصدير واستيراد بضائع منها عن طريق الموانئ البحرية تعد السويد أهم شريك تجاري لألمانيا عن طريق النقل البحري حيث تبادل البلدان بضائع بحجم 24.4 مليون طن عبر الموانئ البحرية، تليها النرويج (22.7 مليون طن)، الولايات المتحدة (22 مليون طن)، وجمهورية الصين الشعبية (20.9 مليون طن).

التحديات التي تواجه الموانئ الألمانية

يعاني ميناء هامبورج (أكبر الموانئ الألمانية) من تراجع عدد الحاويات التي يتم مناولتها حيث انخفض عددها في النصف الأول من العام 2023م، بنسبة 11.7 في المئة ليصل إلى 3.8 مليون حاوية مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وتعد مدينة هامبورج الآن ثالث أكبر ميناء في أوروبا بعد ميناء روتردام في هولندا وميناء أنتويرب في بلجيكا، ففي العام الماضي، تم مناولة حوالي 14.5 مليون حاوية في ميناء روتردام، وتم مناولة مع حوالي 13.5 مليون حاوية في أنتويرب. أما في هامبورج، فلم يتجاوز عدد الحاويات التي تم مناولتها خلال العام 2022م، بأكمله 8.3 مليون حاوية. وفي حين زادت حركة الحاويات في مينائي أنتويرب وروتردام بأكثر من 40 في المئة بين عامي 2007م و2021م، شهدت حركة الحاويات في ميناء هامبورج في نفس الفترة انخفاضًا بنسبة 12 في المئة.

يعود هذا التراجع في حجم الحاويات التي تعامل معها ميناء هامبورج مقارنة بالزيادة التي شهداها مينائي روتردام وأنتويرب الى عدة أسباب من أهمها المزايا الجغرافية لموانئ روتردام وأنتويرب، حيث يقع الميناء في روتردام على الساحل مباشرة وتقع محطات مناولة الحاويات مباشرة على المياه العميقة ويمكن لأكبر سفن الحاويات في العالم الوصول إليها دون قيود. في المقابل، يقع ميناء هامبورج على بعد 100 كيلومتر من المياه المفتوحة ويتعين على سفن الحاويات الضخمة التي يبلغ طولها 400 متر مع غاطس يزيد عن 13 مترًا، استخدام موجة المد والجزر للدخول الى الميناء عبر نهر Elbe. كما لا تستطيع بعض السفن دخول الميناء وهي محملة بالكامل. الى جانب ذلك تأتي تكلفة مناولة الحاويات في ميناء هامبورج العالية مقارنة بالموانئ الأخرى حيث ان كلفة التعامل مع حاوية في ميناء روتردام أقل بنسبة تصل إلى 30 في المئة عنها في هامبورج. وترجع هذه التكاليف المرتفعة في ميناء هامبورج إلى عدم أتمتة العمليات في الميناء بنفس الدرجة التي عليها العمليات والتشغيل في الموانئ الأوروبية الكبرى الأخرى.

وقد انعكس تأخر ميناء هامبورج في جانب أتمتة التشغيل في انخفاض كفاءة الاداء، ففي مؤشر أداء الموانئ الخاصة بالحاويات (CPPI) والذي نشرة البنك الدولي بالتعاون مع مؤسسة ستاندرد آند بورز لمعلومات السوق العالمية (S&P Global Market Intelligence)، تراجع ميناء هامبورج بنحو 100 مركز في غضون عام واحد، فمن بين 348 ميناء تم فحصها في جميع أنحاء العالم، جاء في المرتبة 328 فقط في تصنيف عام 2022م. أما الميناءان البحريان الألمانيان الكبيران الآخران فقد حققا أداء أفضل بكثير من حيث فعالية الأداء والتشغيل، حيث جاء ميناء بريمرهافن في المرتبة 60، وميناء فيلهلمسهافن في المرتبة 118. لكن هذين الميناءين يعانيان أيضا من تراجع حجم التعامل مع الحاويات، حيث انخفضت عمليات الشحن في بريمرهافن بنسبة 25 في المئة تقريبًا بين عامي 2012م و2022م، إلى 4.6 مليون حاوية سنويًا. وفي فيلهلمسهافن انخفض العدد مؤخراً أيضاً إلى ما يزيد قليلاً عن 685,000 حاوية في العام الماضي.

ويدعو العديد من الخبراء والمختصين في مجال النقل البحري الى تحالف الموانئ الألمانية بدلا من حالة التنافس القائمة فيما بينها حاليًا وأن تعمل الموانئ البحرية الألمانية في هامبورج وبريمرهافن وفيلهلمسهافن معًا بشكل أوثق من أجل تحسين وضعها التنافسي مقارنة بروتردام وأنتويرب. كما انتقدت أطراف في قطاع النقل البحري الحكومة الاتحادية بسبب الدعم الضئيل الذي تقدمة للموانئ الألمانية والذي لا يتجاوز 38 مليون يورو سنويًا ولم تتم زيادة هذا التمويل منذ ما يقرب من 20 عاما، مشددين على ضرورة ان تقدم الحكومة دعما للموانئ البحرية بـ»ما لا يقل عن 500 مليون يورو سنويا».