تعد ألمانيا أكبر موقع لتكرير النفط في أوروبا، حيث يُعالج سنويًا أكثر من 106 ملايين طن من النفط الخام في 12 مصفاة موزعة على أراضيها. وتخدم هذه المصافي ليس فقط قطاع الطاقة، بل تعد عصبًا حيويًا لسلاسل القيمة في الصناعات الكيماوية الثقيلة. وترى وزارة الاقتصاد الاتحادية أن المصافي “عنصر لا غنى عنه” للحفاظ على القيمة الصناعية المضافة في البلاد، خاصة في المواقع الكيميائية المتكاملة.

     لكن صناعة تكرير النفط في ألمانيا تشهد أزمة غير مسبوقة، قد تهدد مستقبلاً أحد أهم أركان البنية التحتية الصناعية في البلاد. إذ تواجه المصافي الألمانية تحديات معقدة تتداخل فيها العوامل الاقتصادية، والتشريعية، والبيئية، مما ينذر بإمكانية إغلاق بعض مواقع التكرير الحيوية، بما يهدد أمن الطاقة في الدولة الأكبر صناعيًا في أوروبا. حيث تعاني المصافي من انخفاض القدرة على التنبؤ بالطلب على المنتجات البترولية، مثل الديزل والكيروسين، بالإضافة إلى تأخر الاستثمارات طويلة الأجل، وزيادة الواردات الرخيصة من الديزل من دول مثل الهند. كما أن تعقيد الملكيات وتزايد التكاليف المرتبطة بحماية المناخ، مثل تكلفة شهادات انبعاثات الكربون، يزيد من الأعباء التشغيلية على هذه المنشآت الحيوية.

     حول ذلك حذر Christoph Michel، الخبير الاقتصادي، من مجموعة بوسطن الاستشارية، من العواقب الوخيمة لأي إغلاق محتمل لعدد من المصافي، مؤكدًا أن ذلك سيؤثر بشكل مباشر على توافر البنزين والديزل وزيوت التدفئة، إضافة إلى المنتجات الأساسية لصناعة الكيماويات. فمن دون هذه المصافي، يصبح من الصعب ضمان أمن الطاقة، خصوصًا في ظل محدودية قدرات النقل البحري والسكك الحديدية لاستيراد المنتجات المكررة.

    ولا تقتصر الضغوط على المنافسة والأسعار فقط، بل تشمل أيضًا عبء التحول في الطاقة، فبحسب الخطط المناخية الأوروبية، يتعيّن على مصافي النفط في ألمانيا التحول تدريجيًا من استخدام النفط الخام إلى مصادر نظيفة مثل الكتلة الحيوية أو المنتجات المصنعة باستخدام الهيدروجين الأخضر. ورغم أهمية هذا التحول، يرى خبراء الصناعة أن ألمانيا ليست في موقع تنافسي بالمقارنة مع دول مثل المملكة المتحدة أو إسبانيا، التي سبقتها بخطوات ملموسة في مجال التشريعات والبنية التحتية. ففي إسبانيا، على سبيل المثال، تم بالفعل إطلاق استثمارات في مصافي الطاقة المتجددة بفضل انخفاض أسعار الكهرباء المتجددة وتركيبة سوق تكرير النفط المحلي المبسط والذي يضم شركتين فقط، ما يعزز الكفاءة ويشجع على الابتكار.

     على أرض الواقع، بدأت شركات نفط كبرى مثل ” BP” و” Shell ” و” Esso ” باتخاذ خطوات فعلية للتخلي عن أصولها في قطاع التكرير الألماني. فقد أعلنت ” BP”، نيتها بيع جزء من مصفاتها في جيلسنكيرشن، والتي تعد الأكبر في البلاد، وتقليص الطاقة الإنتاجية فيها بنسبة الثلث بنهاية العام. كما أعلنت ” Shell” عن وقف إنتاج الوقود في مصفاتها بويسلينغ وتبحث عن مشترٍ لحصصها في مصفاتي PCK Schwedt و”MiRO” في كارلسروه.

أما شركة ” Esso”، فتسعى لبيع حصتها البالغة 25 في المئة في مصفاة تكرير النفط   “MiRO” إلى مجموعة ” Alcmene/Liwathon “، لكن الصفقة تواجه اعتراضات من الشركاء الآخرين وتحقيقًا مطولًا من وزارة الاقتصاد الألمانية، وسط شكوك حول ملاءمة المشتري الجديد.

     ويحذر الخبراء من السماح بدخول فاعلين صغار يفتقرون إلى الخبرة، لما يحمله ذلك من مخاطر على أمن الطاقة. ويقترح بعضهم أن تتدخل الدولة كضامن ومستثمر، مستشهدين بنموذج “صندوق التخلص من النفايات النووية”، الذي أنشئ لضمان إدارة النفايات بعد خروج مشغلي الطاقة النووية من السوق.

     من بين المصافي الألمانية، تبقى مصفاة PCK Schwedt القضية الأكثر تعقيدًا. حيث تقع المصفاة في مدينة شفيت/أودر بولاية براندنبورغ، وتُعد واحدة من أكبر وأهم مصافي النفط في ألمانيا، إذ تبلغ طاقتها الإنتاجية السنوية نحو 11.5 مليون طن من النفط الخام. وتُسهم هذه المصفاة بشكل كبير في تلبية احتياجات العاصمة برلين وولاية براندنبورغ من الوقود، حيث تؤمن جزءً حيوياً من استهلاكهما من البنزين والديزل والكيروسين وزيت التدفئة. غير أن اغلبية أسهم الشركة تعود ملكيتها لشركة Rosneft Deutschland، التابعة لشركة Rosneft الروسية، والتي تخضع منذ عام 2022م، لإشراف الحكومة الألمانية عبر الوكالة الفيدرالية للشبكات. ويجدد قرار الاشراف كل ستة أشهر، ما يحول دون أي استثمار بعيد المدى. وفي ظل غياب حل دائم، طُرحت مقترحات غير رسمية تقضي بمقايضة أصول بين روسيا وألمانيا، بحيث تستحوذ الحكومة الألمانية على المصفاة، إلا أن وزارة الاقتصاد تنفي وجود أي توجه رسمي في هذا الاتجاه حتى اللحظة.

     ومن الواضح أن قطاع التكرير الألماني يمر بمرحلة من الانكماش البنيوي، وسط ضبابية وعدم وضوح اللوائح التنظيمية وضغوط مناخية واقتصادية معقدة. وفيما تعمل الدول الأخرى لضخ استثمارات كبيرة في الهيدروجين الأخضر والتكرير النظيف، تقف ألمانيا أمام تحدٍّ أساسي، إما الإسراع بوضع الأطر القانونية والاستثمارية اللازمة، أو مواجهة فقدان أحد أعمدة أمن الطاقة لديها.