يعد الحديد والصلب أحد أهم العناصر الطبيعية الأساسية التي تستخدم في صناعات كثيرة حول العالم، إذ يتم تصنيفها كمادة أولية مهمة في قطاعات إنتاجية جمة، حيث يصنف الحديد والصلب ضمن أهم الاحتياجات والواردات للدول الصناعية الكبرى، والتي يضمن وجودها استمرار الحركة الإنتاجية والصناعية فيها. كما لا يرتبط التطور الصناعي والقدرة التنافسية للشركات الصناعية بقطاع كما يرتبط بصناعة الحديد والصلب التي تعتبر أحد اهم الصناعات التي تقوم على أساسها اغلب الصناعات الأخرى، فالمنتجات المعدنية المختلفة تمثل نقطة البداية للعديد من سلاسل القيمة الصناعية حيث يلعب الحديد والصلب دورًا رئيسيًا في إنتاج السلع الرأسمالية مثل الآلات والسيارات، كما لا يمكن تصور عمل العديد من القطاعات بداية من بناء المنازل مرورا بإنشاء توربينات الرياح بدون استخدام الفولاذ والصلب.

وفي ألمانيا يتمتع إنتاج الصلب بأهمية كبيرة كأساس لخلق القيمة والابتكار والتوظيف، فهو ضمان للقدرة التنافسية الدولية العالية للاقتصاد الألماني. كما تتميز صناعة الحديد والصلب الألمانية باستخدامها تكنولوجيا معالجة متقدمة تنتج فولاذًا عالي الجودة وصديقًا للبيئة بشكل خاص مقارنة بالمصنعين في البلدان الأخرى. الا ان استمرارية تنافسية صناعة الصلب الألمانية في القوت الحاضر والمستقبل تعتمد على عاملين رئيسيين الأول ضمان وتامين توافر الطاقة بأسعار مناسبة، وثانيا تحقيق التحول في الطاقة في الصناعة وجعلها ملائمة بشكل أكبر لمتطلبات حماية المناخ.

الأهمية الاقتصادية لصناعة الحديد والصلب

ترافق التحول الكبير في صناعة الحديد والصلب التي شهدتها ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع بروز وتطور العديد من الصناعات المعتمدة على الصلب مثل صناعة السيارات وصناعة الآلات والمعدات وساهمت صناعة الصلب في تطور هذه القطاعات وغيرها من القطاعات الصناعية والتي ما تزال حتى اليوم تعتمد بدرجة كبيرة على منتجات الصلب المختلفة، حيث يذهب 35 في المئة من حجم مبيعات منتجات صناعة الصلب داخل ألمانيا الى قطاع البناء والتشييد وحوالي 26 في المئة الى صناعة السيارات و12 في المئة يتم استهلاكها من قبل شركات الصناعات المعدنية فيما تستهلك صناعة المعدات والآلات 11 في المئة، وتعتمد صناعة الانابيب على منتجات هذا القطاع بنسبة 9 في المئة وتبلغ هذه النسبة في صناعة الأجهزة المنزلية 2 في المئة. ويظهر مدى اعتماد وارتباط العديد من الصناعات بصناعة الصلب من خلال عدد الوظائف المرتبطة بهذه الصناعة، ففي حين يبلغ عدد الموظفين الذين يعملون بشكل مباشر في صناعة الحديد والصلب نحو 90 ألف شخص، يوجد حوالي 4 ملايين وظيفة مرتبطة بشكل غير مباشر بهذه الصناعة حيث تمثل القطاعات الصناعية كثيفة الاستخدام للصلب وظيفتين من كل ثلاث وظائف صناعية في ألمانيا.

في المقابل تعد صناعة الصلب ايضًا رافدًا مهمًا للعديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى، ويرجع ذلك من جهة إلى كثافة المواد الاولية التي تدخل في الصناعة حيث يبلغ حجم المواد الأولية سواء من خام الحديد او الخردة وغيرها وأيضا من كميات الطاقة من فحم وغاز اللازمة لتشغيل افران الصهر نحو 145 مليون طن سنويًا. من جهة أخرى هناك سلاسل إنتاج طويلة بالإضافة إلى الحجم الكبير للخدمات المصاحبة في عملية انتاج الصلب، وهو ما يخلق الاحتياج لخدمات العديد من الشركات من القطاعات المختلفة بحيث أن كل وظيفة في صناعة الحديد والصلب مرتبطة بخمسة إلى ستة وظائف أخرى في الصناعات والشركات الموردة.

إيرادات صناعة الحديد والصلب

بلغت إيرادات صناعة الحديد والصلب في ألمانيا في العام 2022م، نحو 55.2 مليار يورو وهو ما يمثل زيادة بنحو 13.8 مليار يورو مقارنة بالعام 2021م. وبهذا تكون مبيعات صناعة الصلب قد تجاوزت مستوى إيرادات ما قبل ازمة كورونا. وقد بلغ حجم انتاج الحديد والصلب في ألمانيا في العام 2022م، حوالي 36.8 مليون طن. وهو ما يجعل ألمانيا أكبر منتج للحديد والصلب في الاتحاد الأوروبي قبل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، كما تحتل ألمانيا المركز السابع في انتاج الصلب على مستوى العالم. حيث تحتل الصين المركز الأول عالميًا وبلغ حجم انتاجها من الحديد والصلب عام 2022م، نحو 1017 مليون طن وبما يصل الى 50 في المئة من حجم الإنتاج العالمي، وهو ما يؤثر بدرجة كبيرة على تنافسية سوق الحديد والصلب العالمي ويشكل ضغوطا على بقية منتجي الحديد والصلب الدوليين ومنهم ألمانيا. وتأتي الهند في المركز الثاني بحجم انتاج بلغ أكثر من 123 مليون طن تليها اليابان بحوالي 89 مليون طن ثم الولايات المتحدة بما يقارب 80 مليون طن وبلغ حجم انتاج روسيا 71.5 مليون طن وفي المركز السادس جاءت كوريا الجنوبية بحجم انتاج في العام 2022م، بلغ 64 مليون طن تقريبًا.

يستحوذ قطاع الصادرات على الجزء الأكبر من صناعة الصلب والفولاذ وقد بلغت صادرات ألمانيا من الصلب والفولاذ العام 2022م ما يقرب من 23.1 مليون طن، ذهبت الغالبية العظمى منها، وبنسبة تصل إلى 80 في المئة، الى دول الاتحاد الأوروبي، بينما ذهبت النسبة المتبقية 20 في المئة الى دول خارج الاتحاد وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تعد أحد اهم أسواق الحديد والصلب الألماني خارج أوروبا.

صناعة الحديد والصلب وأزمة الطاقة

تعد صناعة الحديد والصلب أحد الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة والتي تعتمد في استمرارية انتاجها وتعزيز قدرتها التنافسية على إمدادات موثوقة وبأسعار معقولة من الكهرباء والغاز. ومع بداية أزمة الطاقة التي واجهتها ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوربي بعد بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022م، والتي أدت الى فرض عقوبات أوروبية على واردات الطاقة الروسية المختلفة والتي كانت تمثل في بعض القطاعات، مثل الغاز الطبيعي أكثر من 50 في المئة من امدادات ألمانيا ونحو 40 في المئة من اجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي. وأدت ازمة الطاقة هذه الى ارتفاع كبير في أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي في ألمانيا وأوروبا والتي أصبحت حاليا أعلى عدة مرات مما هي عليه في الولايات المتحدة وآسيا، مما يمثل عبئا هائلا على القدرة التنافسية الدولية لصناعة الحديد والصلب والتي بلغت قيمة التكاليف الإضافية التي تكبدتها لتأمين الطاقة اللازمة لاستمرار الإنتاج حوالي 8 مليارات يورو، وهو ما يساوي حوالي 20 في المئة من حجم إيرادات شركات صناعة الحديد والصلب بحسب ارقام العام 2021م.

وتشكل الأعباء الإضافية لتوفير حاجة صناعة الحديد والصلب من الطاقة خطراً على استقرار واستمرار شركات انتاج الصلب في العمل والإنتاج داخل ألمانيا، علاوة على ذلك، تضرب أزمة الطاقة شركات الصلب في وقت تحتاج فيه إلى كل مواردها المالية من اجل تمويل التحول الى الطاقات المتجددة والاستغناء عن الوقود الاحفوري كمصدر أساسي لتشغيل افران الصهر وبقية عمليات الإنتاج الأخرى.

تستهلك صناعة الصلب في ألمانيا 2.1 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا. ويمثل هذا الحجم من الاستهلاك نحو 8 في المئة من استهلاك اجمالي قطاع الصناعة للغاز وهو يساوي تقريبًا اجمالي استهلاك سكان مدينتي برلين وميونيخ مجتمعتين من الغاز الطبيعي لعام كامل. وبدون كميات كافية من الغاز الطبيعي، يصبح إنتاج الصلب الخام ومعالجة الصلب مستحيلين. حيث يستخدم الغاز الطبيعي في صناعة الصلب بشكل أساسي لتوليد الحرارة الساخنة في أفران صهر الحديد والصلب، ولتجفيف أوعية النقل والتسخين المسبق، وفي أفران المعالجة الحرارية لمعالجة الأسطح بالإضافة الى غيرها من العمليات والخطوات اللازمة لإنتاج الصلب، ومن الصعب استبدال الغاز الطبيعي في هذه العمليات حيث ان تقنيات افران الصهر المستخدمة حاليا ليست متاحة بعد للتحول إلى استخدام الهيدروجين الأخضر او غيره من مصادر الطاقة المتجددة. بالإضافة الى انه إذا تم خفض كمية الغاز الطبيعي المستخدم حاليا فإن خفض او إيقاف الإنتاج سيكون أمراً لا مفر منه وهو ما يطرح مخاطر إضافية حيث إن إيقاف افران الصهر عن العمل سيؤدي الى خطر تلف سلسلة الإنتاج الى جانب الصعوبات الكبيرة والتكاليف العالية لإعادة تشغيل افران الصهر وسلسلة عمليات الإنتاج الأخرى.

وتعد صناعة الحديد والصلب كثيفة الاستهلاك للكهرباء وتبلغ متطلبات الكهرباء لهذه الصناعة في ألمانيا 25 تيرا وات/ساعة. وتغطي شركات القطاع حوالي نصف احتياجاتها من الكهرباء من خلال توليد الكهرباء الخاصة بها عبر الاستفادة من الطاقة الحرارية الكبيرة المستخدمة في عمليات الإنتاج والتي منها على سبيل المثال استخدام البخار الناتج عن أنظمة التبريد لتوليد الكهرباء. وتحصل شركات الحديد والصلب على باقي احتجاجاتها من الكهرباء من الشبكة العامة للكهرباء. ومع ذلك فان ارتفاع أسعار الكهرباء في ألمانيا مقارنة ببقية دول الاتحاد والدول الصناعية الكبرى الأخرى يفرض تكاليف إضافية ويقلل من القدرة التنافسية للشركات الألمانية في الأسواق الدولية.

صناعة الحديد والصلب وحماية المناخ

تعد صناعة الحديد والصلب أحد أكبر القطاعات صناعية التي تنتج عن عملياتها الصناعية انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الضارة بالمناخ وهو ما يضعها على رأس قائمة القطاعات التي يتم مطالبتها بتغيير جذري في طريقة عملها واجراء تحول في الطاقة المستخدمة في عملياتها الصناعية. ومن كل الخيارات المتعددة والمتاحة من مصادر الطاقات المتجددة يأتي الهيدروجين الأخضر كأفضل الخيارات والبدائل المطروحة للطاقة في صناعة الحديد والصلب اعتمادا على ان الهيدروجين هو البديل الأمثل والأكثر مناسبة عن الغاز الطبيعي المستخدم بكثافة في العمليات الصناعية حيث يمكن توفير نسبة كبيرة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون باستخدام مصدر الطاقة هذا، اذ يؤدي استخدام كل طن من الهيدروجين الأخضر الى توفير وتقليل كمية انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بنحو 28 طن. كما ان استخدام الهيدروجين في صناعة الحديد والصلب بشكل واسع يتيح لألمانيا تحقيق تخفيضات كبيرة في انبعاثات الغازات العادمة بما يمكن من تحقيق اهداف المناخ التي وضعتها الحكومة الاتحادية للعام 2030م.

ويعتمد استخدام الهيدروجين الأخضر في صناعة الصلب أيضًا على مدى سرعة تعزيز البينة التحتية لإنتاج الهيدروجين في ألمانيا وأوروبا، والتي ما تزال في مستوى غير كاف حاليًا لتغطية احتياجات الطاقة في القطاع الصناعي بشكل عام وصناعة الحديد والصلب بشكل خاص، كما انه من الواضح أنه لن يكون هناك ما يكفي من الهيدروجين الأخضر في المستقبل المنظور، ولذلك، يدعوا العديد من الخبراء الى العمل على تخصيص الكميات المتوافرة في الوقت الحاضر من الهيدروجين الى القطاعات التي تحتاجها بدرجة أكبر من القطاعات الأخرى خصوصًا الأكثر كفاءة في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ويأتي في مقدمة هذه القطاعات صناعة الحديد والصلب.

في نفس الوقت تستطيع صناعة الحديد والصلب، وباعتبارها صناعة كبيرة الطلب على الطاقة وتتمتع بالقدرة على استيعاب الهيدروجين واستخدامه بكفاءة بدلا عن الغاز، أن تكون محركًا حاسمًا لتطوير وتكثيف انتاج الهيدروجين في ألمانيا، على شرط أن تقدم الحكومة دعما حاسما لشركات صناعة الصلب حتى تتمكن من الاستثمار بكثافة في تطوير انتاج الهيدروجين، حيث لا تزال تكاليف عمليات الإنتاج المعتمدة على الهيدروجين أعلى بكثير من تكاليف عمليات الإنتاج القائمة على استخدام الغاز الطبيعي.