تعاني ألمانيا من نقص متزايد في العمالة المؤهلة ويتوقع العديد من الخبراء ان يزداد أيضا خلال السنوات القادمة حيث ستحتاج الشركات الالمانية الى نحو 400 ألف عامل ماهر سنويا لضمان استمرار اعمالها وكذلك لاستمرار نمو الاقتصاد.  ولا يقتصر النقص في العمالة المؤهلة على أصحاب المؤهلات الاكاديمية فحسب بل يتجاوز ذلك وبدرجة قد تكون أكبر وأكثر حدة الى العمالة المؤهلة في القطاع الصناعي وقطاع الرعاية الصحية مرورا بقطاع الضيافة ووصولا للعمالة اليدوية الحرفية.

وامام هذه الإشكالية تتوالى وتتنوع الإجراءات الحكومية الهادفة الى معالجة هذا النقص من رفع جاذبية التعليم والتدريب المهني وتشجيع الأجيال الجديدة للالتحاق بمساراته وتخصصاته المختلفة وكذلك الاستفادة من العمالة المؤهلة في بقية دول الاتحاد الأوروبي خصوصا مع حرية انتقال العمالة ومحاولة استقطاب العدد الأكبر من المتخصصين والفنيين للعمل في ألمانيا. الا ان التركيز الأكبر للحكومة الاتحادية وبناءً على الدعوات المتتالية من القطاعات الاقتصادية المختلفة سوف يتجه الى تسهيل هجرة العمالة المؤهلة من خارج دول الاتحاد الأوروبي الى ألمانيا.

نقص العمالة الماهرة في ألمانيا

ان العامل الرئيسي الذي كان له تأثير حاسم على النقص في العمالة الماهرة في الوقت الحاضر كما هو الحال نفسه في المستقبل، هو التغير الديموغرافي وتقدم المجتمع الالماني في السن. حيث تؤدي الشيخوخة إلى زيادة النقص في العمال المهرة وزيادة الأعباء على صناديق التأمينات الاجتماعية. فوفقًا للتوقعات الحالية، سينخفض ​​عدد السكان في سن العمل، (أي الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 20 وما دون 65 عامًا)، بمقدار 3.9 مليون شخص إلى 45.9 مليون بحلول عام 2030م. كما تذهب التوقعات الى انه سيكون هناك 10.2 مليون شخص أقل في سن العمل في عام 2060م مقارنة بعدد السكان القادرين على العمل في الوقت الحاضر.

 وتشير تقارير حكومية أن النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة في ألمانيا كان مدعومًا بشكل أساسي بالهجرة الداخلية في الاتحاد الأوروبي حيث جذبت ألمانيا العديد من المتخصصين والعمال المهرة من العديد من دول الاتحاد الأوروبي خصوصا تلك التي تواجه أزمات اقتصادية مثل اليونان وإيطاليا واسبانيا او من دول شرق أوروبا حيث الأجور المتدنية. ومع ذلك، فإن هذه الهجرة حاليًا لن تكون كافية للتعويض عن الانخفاض في القوى العاملة المحتمل بسبب التغيير الديموغرافي وما يفرضه من مخاطر تراجع النمو الاقتصادي، اذ تظهر العديد من الدراسات أن الناتج الاقتصادي سيتراجع في حالة لم يتوفر العدد الكافي من العمال المهرة. وبحسب تقديرات وزارة الاقتصاد الاتحادية فان ما يقرب من 352 مهنه من بين 801 مهنه في ألمانيا تواجه حالياً نقصا في العمالة الماهرة كما ان 55 في المئة من الشركات في ألمانيا ترى بالفعل نقص العمال المهرة على أنه خطر على اعمالها المستقبلية.

وصل النقص في العمالة الماهرة في ألمانيا إلى مستوى قياسي العام 2022م. ووفقاً لدراسة أعدها مركز الكفاءة لتأمين العمال المهرة (Kofa) التابع لمعهد لاقتصاد الألماني في كولونيا (IW)، ظلت أكثر من 630 ألف وظيفة شاغرة في عموم ألمانيا في عام 2022م، لأنه لم يكن هناك باحثون عن عمل لديهم المؤهلات اللازمة. ويعد هذا أكبر نقص في العمالة الماهرة منذ بدء فترة حساب النقص في العمالة الماهرة في عام 2010م. ووفقًا للدراسة، كان هذا النقص أكثر وضوحًا في مجالات الصحة والشؤون الاجتماعية والتعليم وكذلك في مجال البناء، حيث لا يمكن شغل ستة من كل عشرة وظائف شاغرة. وكذلك كان النقص في العمال المهرة أعلى من المتوسط ​​في مجالات العلوم الطبيعية والجغرافيا وتكنولوجيا المعلومات.

في المجال المهني للخدمات التجارية وتجارة السلع والمبيعات والفنادق والسياحة، تضاعف حجم النقص في العمالة الماهرة ثلاث مرات تقريبًا في العام الماضي. حيث ظلت ثلاثة من كل عشرة وظائف شاغرة في عام 2022م. ويمكن تفسير الزيادة الكبيرة في هذا المجال أيضًا من خلال تأثير اللحاق بالركب بعد الركود الحاد في أعقاب جائحة كورونا. كما اظهرت الدراسة انه كلما ارتفعت المؤهلات المطلوبة، كلما زادت صعوبة ملء الشواغر في الوظائف. إذ يتركز النقص بشكل خاص في المتخصصين الحاصلين على درجة جامعية في مجالات علوم الكمبيوتر والهندسة الكهربائية وتخطيط البناء والإشراف. وفي هذا الجانب هنالك تسعة من كل عشرة وظائف شاغرة بدون عمال مؤهلين بشكل مناسب.

التحديات التي تواجه التدريب المهني

يمثل التعليم والتدريب المهني اهم الطرق والأساليب التي تعتمدها ألمانيا في توفير العمالة الماهرة للاقتصاد، الا ان هنالك مشكلة مزمنة في مدى الاقبال على الالتحاق بهذا النوع من التعليم. ففي مجال التمريض، أحد اهم المهن الأساسية، يختار عدد أقل وأقل من المتدربين مهنة التمريض، يظهر ذلك من خلال أحدث بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي للعام 2022م، حيث انخفض عدد الأشخاص المتقدمين للالتحاق ببرنامج تدريب مهني في مجال التمريض والرعاية الصحية بحوالي 4000 شخص بالمقارنة مع العام السابق. ويمثل هذا العدد تراجعا بنسبة سبعة في المئة، ففي حين بلغ عدد المسجلين الجدد في برامج التدريب في مجال التمريض العام 2021م، 56300 متدرب ومتدربه، لم يكن هناك في العام 2022م، سوى 52300 متدرب ومتدربه، منهم 13500 رجل و38800 امرأة. واجمالا بلغ مجموع المتدربين والمتدربات في مهنة التمريض العام 2022م، 146500 شخص، بلغت نسبة النساء منهم 76 في المئة.

ومع هذا الانخفاض في عدد الراغبين في امتهان التمريض ستزداد الحاجة إلى طواقم التمريض بشكل كبير في السنوات القادمة، حيث أن عدد الأشخاص الذين سيحتاجون إلى رعاية صحية في ألمانيا سيزداد بنسبة 37 في المئة بحلول عام 2055م، بسبب شيخوخة السكان وحدها. وفي عام 2035م، سيكون هناك بالفعل 5.6 مليون شخص بحاجة إلى رعاية صحية، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 14 في المئة مقارنة بنهاية عام 2021م.

 من ناحية أخرى اظهر تقرير لمكتب الإحصاء الاتحادي أيضاً ان عدد المسجلين الجدد في برامج التدريب المهني المختلفة نما في العام 2022م، بشكل محدود حيث وصل عددهم الى 468900 متدرب بزيادة 2700 متدرب وبنسبة 0.6 في المئة فقط مقارنة بالعام 2021م. بالرغم من ان عدد المتدربين المهنيين قد شهد تراجعا كبيرا خلال سنوات جائحة كورونا 2020-2021م، فبالمقارنة مع عدد المسجلين الجدد في العام 2019م، (العام الذي سبق الجائحة) كان عدد المسجلين الجدد في برامج التعليم والتدريب المهني 510900 متدرب ومتدربة. وبشكل عام بلغ مجموع عدد المسجلين في التدريب المهني في ألمانيا نهاية العام 2022م، 1.22 مليون متدرب ومتدربة هو ما يمثل اقل بنسبة 3 في المئة من مجموع اعدادهم في العام 2021م.

النمو المحدود في عدد المسجلين الجدد في برامج التدريب المهني المختلفة لم يشمل كل القطاعات الاقتصادية، فبنما نما عدد المسجلين الجدد في برامج التدريب المهني في قطاعي الصناعة والتجارة بنسبة 3 في المئة العام 2022م بالمقارنة مع العام 2021م، والذي وصل مجموعهم الى 269800 متدرب ومتدربة، تراجع عدد المسجلين الجدد في برامج التدريب المهني في المهن الحرفية بنسبة 2.3 في المئة الى 127400 متدرب ومتدربة. كما تراجع عددهم في قطاع الزراعة بنسبة 5 في المئة ليصل الى 13 ألف متدرب ومتدربة.

من جانب اخر شكل الذكور اغلبية المسجلين الجدد في التدريب المهني للحرف اليدوية العام 2022م، وذلك بنسبة 81 في المئة. الا ان هذا الاتجاه في طور التغير وان كان ببطء، حيث تراجع عدد المسجلين الجدد في المهن اليدوية من الشباب بنسبة 3 في المئة بالمقارنة مع العام السابق بينما ارتفع عدد المسجلات الجدد من الفتيات في برامج التدريب المهني في الحرف اليدوية بنسبة 2 في المئة في نفس الفترة. كما تزداد نسبة النساء في المسجلين الجدد في التدريب المهني في كل القطاعات الاقتصادية بشكل طفيف، حيث ارتفعت نسبة المسجلات الجدد في التدريب المهني العام 2022م بنسبة 1.1 في المئة مقارنة بالعام السابق بينما نما عدد المسجلين من الذكور بنسبة 0.3 في المئة فقط.

 وفي ضوء تراجع عدد المقبلين على التدريب المهني في المهن اليدوية الحرفية يتوقع الاتحاد المركزي للحرف اليدوية الألمانية (ZDH) نقصًا متزايداً في العمال المهرة في القطاع مما يهدد العديد من المشاريع المستقبلية حيث أكد الاتحاد انه “فقط مع الحرفيين المؤهلين بشكل كافٍ، يمكن أن تنجح مشاريع حماية المناخ والتحول في الطاقة وتوسيع البنية التحتية وتنفيذها وضمان الإمداد اليومي”.

 كما يحذر الاتحاد من النقص المتزايد في عدد العمال المؤهلين في قطاع الحرف اليدوية وكذلك الانخفاض الحاد في عدد المتدربين الجدد في هذا القطاع، اذ ان هنالك في الوقت الحاضر نقص بما يزيد عن ربع مليون عامل مؤهل في قطاع الحرف اليدوية في ألمانيا فقط.  وبحسب بيانات اتحاد الحرف اليدوية فقد شهد عدد المتدربين الجدد في المهن المختلفة التي تدخل ضمن إطار تعريف المهن اليدوية انخفاضا كبيرا خلال السنوات الماضية، اذ انه وفي حين بدأ نحو 163 ألف شاب وشابه التدريب في مهنه العام 2005م، كان العدد 127400 شاب وشابة فقط في العام 2022م.  بينما في نفس الفترة، ارتفع عدد الطلاب الجدد الملتحقين بالتعليم الأكاديمي في الجامعات بأكثر من 50 في المئة، وفي الوقت الحاضر يسعى سته من كل عشرة اشخاص الى استكمال تعليمهم الجامعي بعد انهاء المرحلة الثانوية. هذا النقص في عدد المتدربين الجدد يؤثر بشكل خاص على المهن الحرفية مثل البناء والتشطيب، السباكة، التدفئة وتكييف الهواء، بيع الأجهزة الكهربائية والمواد الغذائية الى جانب النقص المستمر في مهن مثل الجزارين والخبازين.

وفي مؤشر إضافي على تراجع الاقبال من الأجيال الجديدة في ألمانيا عن الالتحاق بمساقات التدريب المهني اظهر تقرير للمعهد الاتحادي للتدريب المهني (BIBB)، انه وللمرة الأولى تجاوز عدد الأشخاص في الفئة العمرية من 20 إلى 34 عامًا الذين ليس لديهم مؤهل مهني حاجز 2.5 مليون شخص. وبحسب التقرير فقد ارتفعت نسبة الشباب في هذه الفئة العمرية دون مؤهل مهني من 15.5 في المئة في العام 2020م، الى 17 في المئة العام 2021م. وقد اختلفت النسبة بحسب الجنس حيث كانت بين الاناث 15 في المئة بينما بلغت بين الذكور 18 في المئة. ويزداد عدد الشباب الغير حاصلين على مؤهل مهني بشكل متواصل منذ عشر سنوات وتخطي عددهم حاجز المليونين شخص للمرة الأولى العام 2016م.

ويرجع العديد من الخبراء أسباب هذا النقص المتزايد في عدد الشباب والشابات من الجيل الجديد الراغبين في العمل في أحد المهن الحرفية الى التغيرات الديموغرافية في المجتمع الألماني والتناقص المستمر في عدد الشباب من مجموع السكان (شيخوخة المجتمع). من ناحية أخرى ركزت سياسة التعليم من جانب واحد على التعليم الأكاديمي لفترة طويلة جدًا. هذا بالإضافة إلى نقص المعرفة لدى العديد من الشباب حول تنوع المهن الحرفية وكذلك النظرة المجتمعية للعاملين في هذه المهن، حيث يشدد الخبراء على الحاجة إلى المزيد من التقدير للتدريب المهني، وان تسود القناعة في المجتمع انه “إذا أصبح ابن المحامي نجارًا، فهذه ليست خطوة إلى الوراء. وإذا ما قالت شابة او شاب إنني أريد أن أصبح خبازًا، مع أو بدون شهادة الدراسة الثانوية، فهذه ليست خطوة إلى الوراء”، اذ يجب عدم الربط بين الرضا والنجاح المهني والحصول على درجات اكاديمية مثل البكالوريوس والماجستير. كما يضاف الى المصاعب التي تواجه برامج التدريب المهني ان نسبة الشركات في ألمانيا التي تقدم فرص التدريب المهني آخذة في الانخفاض أيضًا وذلك وفقًا لدراسات أجراها معهد سوق العمل والبحث المهني (IAB).

تعديلات في قانون الهجرة لجذب العمالة المؤهلة

في ظل هذ النقص المتزايد في العمالة المؤهلة، تسعى الحكومة الاتحادية، وبتشجيع من القطاعات الاقتصادية المختلفة، الى جذب المزيد من العمال المهرة من الخارج، ولتحقيق ذلك اقرت الحكومة الاتحادية اجراء تعديلات على قانون الهجرة الذي دخل حيز التنفيذ منذ ثلاث سنوات بهدف تخفيف الشروط اللازمة لقدوم المتخصصين والمؤهلين الأجانب للعمل في ألمانيا، وانشاء نظام يسمح بالهجرة على أساس النقاط حيث سيتم اصدار ما تسمى ببطاقة “فرصة” “Chancenkarte”، والتي ستمنح للعمال الأجانب المؤهلين من خارج دول الاتحاد الأوروبي وتتضمن عدة شروط أهمها الحصول على مؤهل مهني الى جانب خبرة في مجال التخصص لا تقل عن ثلاث سنوات الى جانب ان لا يتجاوز سن المتقدم 35 عاماً. يجب على المتقدم ان يكون قادرا على ان يتجمل تكاليف اقامته في ألمانيا خلال فترة بحثه عن عمل. وقد تم التخلي عن شرطين سابقين في القانون القديم كانا يتسببان في تأخير وتعقيد عملية جلب العمال والمتخصصين الأجانب وهما شرط ضرورة الاعتراف بالمؤهل الأجنبي في ألمانيا وكذلك شرط الحصول على مستوى معين من اجادة اللغة الألمانية قبل القدوم للبحث عن عمل داخل البلاد.  فوفقا لهذه التعديلات أصبح بإمكان العمال الأجانب ذوي المؤهلات المهنية والخبرة أن يأتوا في المستقبل دون الحاجة إلى الاعتراف بمؤهلاتهم من قبل السلطات المختصة في ألمانيا مسبقًا، كما سيكون بإمكانهم الحصول على فرصة للعمل التجريبي أو العمل بدوام جزئي، وكذلك العمل في أي قطاع اقتصادي يناسب مؤهلاتهم بالإضافة الى إمكانية حصولهم على تدريب مهني إضافي. ويهدف القانون بحسب وزير العمل الاتحادي Hubertus Heil الى جذب حوالي 125 ألف عامل أجنبي مؤهل كل عام.

وتأتي هذه التعديلات على قانون الهجرة بعد مطالبات العديد من الاتحادات التي تمثل مختلف القطاعات الاقتصادية بتسهيل إجراءات قدوم العمال المهرة وتخفيف العقبات البيروقراطية امامهم، وفي هذا الجانب أوضح  Karel Haeusgenرئيس الاتحاد الألماني لصناعة الآلات والمعدات (VDMA) ضرورة تحسين قانون الهجرة مؤكداً على انه “لن ننجح إذا تركنا المسألة لوكالة العمل الاتحادية فقط” مطالبا بان يتم السماح لشركات التوظيف ان تتولى ” توظيف وجلب عمال متخصصين من دول خارج الاتحاد الاوروبي”، كما دعا Jörg Dittrich  رئيس الاتحاد المركزي للحرف اليدوية الألمانية (ZDH)،  الى تفعيل تعديلات الحكومة الاتحادية على قانون هجرة اليد العاملة في الممارسة العملية  من خلال جعل القانون أقل بيروقراطية وضرورة  تسريع الإجراءات الإدارية بشكل كبير “.

 

Photo:iStock-942163402_by_industryview