تلعب الشركات العائلية دورًا محوريًا في الاقتصاد الألماني، حيث تشكل نسبة تقارب 90 في المئة من إجمالي الشركات العاملة في البلاد. وتُعد هذه الشركات من الأعمدة الأساسية للسوق المحلية، ليس فقط من حيث العدد، بل أيضًا من حيث الوظائف التي توفرها. إذ توظف الشركات العائلية حوالي 57 في المئة من إجمالي القوى العاملة في ألمانيا، مما يجعلها المصدر الرئيسي لفرص العمل، وخاصة في القطاعات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الألماني.
ويُظهر هذا الدور الحيوي أن الشركات العائلية ليست مجرد كيانات اقتصادية عادية، بل تمثل نموذجًا فريدًا في دعم التنمية المستدامة، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وتمتاز هذه الشركات بنهج إداري يركز على الأهداف طويلة الأمد، حيث تسعى إلى الحفاظ على استمرارية العمل عبر الأجيال، مما ينعكس إيجابًا على الابتكار، جودة المنتجات، والالتزام المجتمعي.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب الشركات العائلية دورًا هامًا في تنمية الاقتصاد المحلي، خاصة في المناطق الريفية والبلدات الصغيرة، حيث توفر فرص العمل وتحافظ على النشاط الاقتصادي في مناطق قد تكون معرضة للهجرة أو التراجع الاقتصادي. كما تساهم هذه الشركات في تعزيز الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل الصناعة التحويلية، الخدمات، والزراعة، مما يضيف تنوعًا وقوة للاقتصاد الألماني.
ورغم أهميتها الكبيرة، تواجه الشركات العائلية في ألمانيا تحديات متنوعة، منها التغيرات الاقتصادية السريعة، الضغوط التنظيمية والضريبية، والتنافسية المتزايدة على الصعيدين المحلي والدولي.
الصناعة في مقدمة أولويات الشركات العائلية في ألمانيا والتركيز على الصناعة
تُعتبر الشركات العائلية بشكل عام أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد، وتمثل قوة اقتصادية هائلة تتميز بالاستقرار والقدرة على النمو حتى في ظل الظروف العالمية الصعبة. ووفقًا لمؤشر الشركات العائلية العالمي لعام 2025، الذي تصدره جامعة سانت غالن السويسرية بالتعاون مع شركة الاستشارات EY، حققت أكبر 500 شركة عائلية في العالم نموًا بنسبة 10 في المئة خلال العامين الماضيين، رغم التحديات المتعددة التي يشهدها العالم مثل الحروب، التغير المناخي، والنزاعات التجارية. وحققت هذه الشركات إيرادات إجمالية بلغت 8.8 تريليون دولار، مما يعكس مرونتها وقدرتها على التكيف في بيئات متغيرة.
وتأتي ألمانيا في المرتبة الثانية عالميًا بعد الولايات المتحدة من حيث عدد الشركات العائلية المدرجة ضمن أكبر 500 شركة عائلية، حيث تضم القائمة 78 شركة ألمانية، متفوقة بذلك على العديد من الدول الأوروبية الكبرى. وتُعد هذه الشركات حجر الزاوية في الاقتصاد الألماني، خاصةً أن العديد منها ينتمي إلى قطاعات صناعية استراتيجية، أبرزها قطاع السيارات، وهو القطاع الذي يعتبر العمود الفقري للاقتصاد الصناعي الألماني.
ومن بين هذه الشركات الكبيرة، تبرز «فولكسفاغن» كأكبر شركة عائلية ألمانية، رغم كونها شركة مدرجة في البورصة، مما يدل على الدمج بين الإدارة العائلية والحوكمة المؤسساتية. تليها شركات مثل «بي إم دبليو»، لصناعة السيارات، و»بوش» العملاقة في مجال توريد قطع الغيار، إلى جانب «ألدي زود»، أحد أكبر سلاسل التجزئة في ألمانيا والعالم.
ويظهر مؤشر الشركات العائلية العالمي أن نحو 38 في المئة من الشركات العائلية الألمانية المدرجة تنتمي إلى القطاع الصناعي، وهو ما يمثل نسبة مرتفعة مقارنة بالمتوسط العالمي. كما تمثل الشركات التجارية 20 في المئة وقطاع السلع الاستهلاكية 19 في المئة فقط. يعكس هذا التركيز دور قطاع الصناعة للشركات العائلية الألمانية، إلا أنه في الوقت ذاته يشكل نوعًا من «المخاطرة التراكمية» بسبب الاعتماد الكبير على قطاع واحد.
إلا أن هذا التركيز يمكن أن يمثل «ركيزة للاستقرار» في حال تم استغلال الفرص الناشئة من التحول الرقمي والابتكار الصناعي، وفقًا لتصريحات ولفغانغ غلاونر، الشريك المسؤول عن الشركات العائلية لدى EY في أوروبا الغربية. فقد أصبحت الشركات العائلية الألمانية تمثل نموذجًا في القدرة على الابتكار، خاصة في مجالات مثل التقنيات النظيفة، والثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0)، والتنقل المستدام.
مزايا الشركات العائلية الألمانية
الاستدامة والملكية الطويلة الأمد: تركز الشركات العائلية بشكل كبير على استدامة العمل والنجاح عبر الأجيال، مما يدفعها إلى الاستثمار في مشاريع طويلة الأمد وعدم التركيز فقط على الأرباح القصيرة الأجل. هذا النوع من الإدارة يمنحها القدرة على مواجهة الأزمات المالية أو الاقتصادية بصورة أفضل من الشركات التي تعتمد على المستثمرين الخارجيين فقط.
التمويل الذاتي والاعتماد على رأس المال الخاص: تتميز الشركات العائلية في ألمانيا غالبًا بامتلاكها نسبًا عالية من رأس المال الخاص، مما يمنحها مرونة في اتخاذ قرارات استثمارية دون الحاجة الماسة للتمويل الخارجي، وهذا يُمكّنها من استغلال الفرص بسرعة والابتكار.
المرونة في اتخاذ القرار: نظرًا لطبيعتها العائلية، تتمتع هذه الشركات بمرونة أكبر في اتخاذ القرارات الاستراتيجية مقارنة بالشركات الكبرى ذات الهياكل الإدارية المعقدة، مما يساعدها على التكيف مع التغيرات السريعة في الأسواق العالمية.
التركيز على جودة المنتجات والابتكار: تمثل الشركات العائلية الألمانية جزءًا كبيرًا من الصناعات التي تعتمد على الجودة العالية والابتكار، مثل صناعة السيارات والآلات والأجهزة الطبية. ووفقًا لمعهد IFO، تستثمر هذه الشركات نسبة تصل إلى 10 في المئة من إيراداتها السنوية في البحث والتطوير، وهي نسبة أعلى من المتوسط الأوروبي.
المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية: لا تركز الشركات العائلية فقط على الربح، بل تُولي اهتمامًا خاصًا للموظفين والمجتمعات المحلية التي تعمل فيها. حيث يساهم العديد منها في تنمية المجتمعات الريفية والمدن الصغيرة، مما يخلق فرص عمل ويحافظ على الاستقرار الاجتماعي.
موقع ألمانيا في تصنيف الدول الأفضل لعمل الشركات العائلية
بحسب أحدث تصنيف لأفضل مواقع الاستثمار والعمل للشركات العائلية الذي أعده مركز البحوث الاقتصادية الأوروبية (ZEW) في مانهايم، بتكليف من مؤسسة الشركات العائلية (Stiftung Familienunternehmen)، جاءت ألمانيا في المرتبة 17 من بين 21 دولة صناعية شملها التصنيف. وكانت ألمانيا قد احتلت قبل عامين المركز 18. لكن وفقاً لمركز ZEW، فإن التقدم الذي حققته ألمانيا في التصنيف يعود فقط إلى تراجع المجر بسبب تدهور مؤسساتها القانونية. ومنذ بدء هذا التصنيف في عام 2006م، تراجعت ألمانيا خمس مراتب.
وتظهر نتائج التصنيف، من وجهة نظر Ulrich Stoll، عضو مجلس إدارة مؤسسة الشركات العائلية، مدى الحاجة الماسة إلى وضع أجندة لتحسين الاقتصاد. ويرى ان «انتخابات البرلمان الاتحادي الأخيرة ستحدد ما إذا كنا سنشهد تحولاً في السياسات الاقتصادية». حيث يشير تصنيف موقع الاستثمار الذي أعده مركز ZEW ومؤسسة الشركات العائلية إلى أن المشكلات في ألمانيا ذات طبيعة هيكلية، مما قد يؤدي إلى استمرار ضعف النمو الاقتصادي أو انخفاضه لفترة طويلة.
تتصدر التصنيف دول مثل الدنمارك والسويد، تليها كندا والولايات المتحدة. وبالنسبة ل Ulrich Stoll، فان هذه نتيجة مشجعة حيث تثبت ان «الظروف الاقتصادية في أوروبا ليست سيئة للغاية كما يبدو، وان ألمانيا لديها القدرة على تحسين وضعها الاقتصادي والعودة إلى المسار الصحيح». ويستند تصنيف موقع الاستثمار إلى إحصائيات واستطلاعات في ستة مؤشرات: العمل، التنظيم، التمويل، البنية التحتية والمؤسسات، والطاقة والضرائب.
العمل (المرتبة 20): يشمل هذا المؤشر تكاليف العمل، الإنتاجية، ومستوى التعليم. ولا تزال إيرلندا في المقدمة بسبب إنتاجيتها العالية وتكاليف العمل المنخفضة. أما ألمانيا، فتواجه تكاليف عمل مرتفعة مع إنتاجية منخفضة نسبياً، بالإضافة إلى الأداء السيئ في اختبارات «بيزا» للتعليم. وتأتي إيطاليا فقط خلف ألمانيا في هذا المجال.
التنظيم (المرتبة 17): يركز هذا المؤشر على الإجراءات البيروقراطية المطلوبة لتأسيس الشركات وإدارتها، وتنظيم سوق العمل، وسهولة التجارة مع الشركاء الدوليين. ويعتبر أداء ألمانيا ضعيفاً في هذا المؤشر بسبب نظام المشاركة القوي في القرارات داخل الشركات. بينما على النقيض، تتمتع الدول الأنجلوسكسونية بحرية أكبر في اتخاذ القرارات الإدارية. رغم ذلك، يشير الخبراء إلى أن التنظيم الجيد والتنسيق بين الأطراف الفاعلة يمكن أن يكون له أثر إيجابي. على سبيل المثال، تقدمت فرنسا في الترتيب بعد انخفاض الإضرابات في القطاع العام. وتتصدر الولايات المتحدة وإيرلندا هذا المجال، يليهما الدنمارك والسويد من دول الاتحاد الأوروبي.
التمويل (المرتبة الأولى): فيما يتعلق بالتمويل، يتضمن المؤشر حماية الدائنين، سهولة الوصول إلى القروض، ومستوى ديون الدولة. تستمر ألمانيا في الصدارة بسبب قدرتها على تقديم معلومات دقيقة عن الجدارة الائتمانية للشركاء المحتملين. ومع ذلك، يظل الوصول إلى سوق القروض بحاجة إلى تحسين، خاصة بالنسبة للشركات العائلية الناشئة، التي تواجه صعوبات في تمويل مراحل نموها.
البنية التحتية والمؤسسات (المرتبة العاشرة): لا تزال الدول الثلاث الأولى في هذه الفئة دون تغيير: الدنمارك، سويسرا، وهولندا. وبحسب Heinemann، فإن أحد الأسباب وراء انتقال المزيد من الشركات العائلية إلى سويسرا هو أن ظروف العمل هناك تُعتبر أفضل، رغم ارتفاع تكاليف الأجور. وتأتي ألمانيا في مرتبة متوسطة. وتتمثل نقاط القوة في ألمانيا في هذا المجال في التحكم في الفساد. ومع ذلك، تُظهر نتائج سيئة للغاية في مجال البنية التحتية، خاصة في قطاع السكك الحديدية.
الطاقة (المرتبة الثامنة): حققت ألمانيا تقدمًا ملحوظًا في مؤشر الطاقة، حيث كانت قبل عامين في المرتبة 18. يقول Heinemann: «هذا ربما هو الأمر المفاجئ». يعود السبب في ذلك إلى تعامل ألمانيا مع صدمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الاوكرانية. وقد تمكنت البلاد من تعويض النقص في الغاز الروسي بشكل كبير، مما أدى إلى تقليل مخاطر استيراد الطاقة. ومع ذلك، تظل الشركات العائلية في ألمانيا تعاني من ارتفاع أسعار الكهرباء، خاصة بالمقارنة مع الولايات المتحدة وكندا.
الضرائب (المرتبة 20): فيما يتعلق بالضرائب على الشركات العائلية، تأتي ألمانيا في الترتيب ما قبل الأخير وتتقدم فقط على اليابان في هذا المجال. يشمل تحليل مركز البحوث الاقتصادية الأوروبية ZEW، العبء الضريبي، وتعقيد النظام الضريبي، والقواعد الخاصة بالأنشطة التجارية عبر الحدود. وتُعتبر ضريبة الميراث ذات أهمية كبيرة في هذا المؤشر الفرعي، حيث تبلغ نسبتها في ألمانيا بين 7 في المئة و50 في المئة. بينما على سبيل المثال، لا تفرض السويد ضريبة ميراث على الإطلاق. وتتصدر هذا المؤشر الدول الأوروبية الشرقية مثل سلوفاكيا، التشيك، وبولندا بفضل العبء الضريبي المنخفض إجمالاً.
العوامل المؤثرة على استقرار الشركات العائلية
مع تعدد العوامل والأسباب التي تحد من القدرة التنافسية للشركات العائلية في ألمانيا الا ان العبء الضريبي يبقى اهم المهددات لاستقرار الشركات العائلية وضمان قدرتها التنافسية. حيث تعد ألمانيا واحدة من أكثر الدول الصناعية التي تفرض عبئًا ضريبيًا مرتفعًا على الشركات، ويؤثر هذا الوضع بشكل خاص على الشركات العائلية. وتتنوع حزمة الضرائب المفروضة على هذه الشركات وعلى رأسها المستوى المرتفع للضرائب المفروضة على دخل الشركات، والأرباح، ورأس المال، ما يفرض قيودًا كبيرة على إمكانيات النمو الذاتي والاستثمار طويل الأمد – وهي من السمات المميزة للشركات العائلية. فهذه الشركات، التي غالبًا ما تعتمد على تمويل داخلي، تسعى إلى إعادة استثمار الأرباح في أنشطتها بدلاً من توزيعها، وهو ما يتطلب نظامًا ضريبيًا يدعم هذه الاستراتيجية. غير أن البيئة الضريبية الحالية تضعف هذا التوجه وتحدّ من مرونة هذه الشركات في اتخاذ قرارات استراتيجية مستدامة.
وفي أوقات التباطؤ الاقتصادي أو الأزمات، يصبح تأثير الضرائب المرتفعة أكثر حدة، إذ تضطر الشركات إلى استخدام احتياطاتها المالية لدفع التزامات ضريبية متزايدة، ما يؤدي إلى تآكل السيولة ويقلل من قدرتها على الاستثمار في الابتكار أو الرقمنة أو التحول البيئي. وتُعد هذه المجالات من أولويات السياسات الاقتصادية في ألمانيا، مما يخلق مفارقة بين التوجهات السياسية العامة والبيئة الضريبية الفعلية التي تواجهها الشركات.
وتشير العديد من الدراسات الاقتصادية إلى أن الأعباء الضريبية المرتفعة تُضعف القدرة التنافسية على المستوى الدولي. فالشركات التي تُثقل بالضرائب في الداخل قد تجد نفسها أقل قدرة على التوسع في الأسواق الخارجية أو على جذب استثمارات أجنبية مباشرة. كما أن ارتفاع الكلفة التشغيلية في ألمانيا مقارنة بدول مجاورة أكثر مرونة ضريبية، يُمكن أن يشجع بعض الشركات على نقل أنشطتها جزئيًا إلى الخارج، الأمر الذي يُهدد بفقدان الوظائف المحلية وتقليص قاعدة الابتكار الصناعي في البلاد. أضف إلى ذلك أن الشركات العائلية تلعب دورًا اجتماعيًا محوريًا، خصوصًا في المناطق الريفية، حيث تساهم في الاستقرار الاقتصادي المحلي، وتؤمن فرص عمل طويلة الأجل، وتعزز من البنية التحتية الاجتماعية. إن إثقال كاهل هذه الشركات بعبء ضريبي كبير يُمكن أن ينعكس سلبًا على هذه الوظائف الحيوية.
من هذا المنظور، يبدو أن البيئة الضريبية في ألمانيا لا تتماشى مع الدور الاستراتيجي الذي تلعبه الشركات العائلية، ولا تُحفزها على مواصلة الاستثمار المستدام. وهو ما يثير الحاجة إلى مراجعة السياسات الضريبية بما يضمن توازنًا بين متطلبات المالية العامة وأهداف التنمية الاقتصادية المستدامة.