رغم ما يُعرف عن ألمانيا بأنها قوة صناعية عالمية، يظل قطاع الزراعة عنصراً أساسياً في المنظومة الاقتصادية والأمن الغذائي للبلاد. وعلى الرغم من أن مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي لا تتجاوز 0.8 في المئة وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الاتحادي لعام 2024م، إلا أن القطاع لعب دوراً استراتيجياً في ضمان استمرار الامدادات الغذائية خاصة خلال الأزمات مثل جائحة كوفيد-19 وأزمة الإمدادات العالمية للحبوب والزيوت الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية.

تُستخدم نحو 50 في المئة من مساحة ألمانيا، أي ما يعادل 16.6 مليون هكتار، للأغراض الزراعية، وتشغّل الزراعة حوالي 940 ألف شخص (بشكل مباشر وغير مباشر) موزعين على ما يقرب من 255 ألف مزرعة. وتبلغ قيمة العائدات السنوية للقطاع نحو 60 مليار يورو. وتشمل الأنشطة الزراعية إنتاج المحاصيل وتربية الحيوانات وصيد الأسماك وإدارة الغابات.

من أبرز ملامح التطور في القطاع زيادة الإنتاجية بشكل هائل مقارنة بالقرن الماضي. فبينما كان مزارع واحد يستطيع انتاج غذاء يكفي لإطعام 4 أشخاص في عام 1900م، ارتفع هذا الرقم إلى نحو 140 شخصاً بحلول عام 2020م، بفضل التحديث التكنولوجي والميكنة الزراعية. وتُعد المنتجات الغذائية المصنوعة في ألمانيا من أبرز الصادرات الوطنية، إذ يُصدر نحو ثلث الإنتاج الزراعي الألماني إلى الأسواق الخارجية، وتحقق صناعة الأغذية في البلاد ثلث إيراداتها من التصدير.

وتواجه الزراعة الألمانية اليوم تحديات كبرى تتعلق بالتغير المناخي، واستدامة الموارد، والتحولات الرقمية التي فرضت تحديات كما وفرت فرص للقطاع.

التحديات التي تفرضها التغيرات المناخية

لم يعد تغير المناخ العالمي قضية نظرية تقتصر على تحذيرات العلماء وخبراء البيئة في المؤتمرات الدولية، بل أصبح واقعاً ملموساً يفرض نفسه من خلال سلسلة متزايدة من الظواهر المناخية المتطرفة. ففي السنوات الأخيرة، بات العالم يشهد بشكل متكرر كوارث طبيعية تتنوع بين الأعاصير والعواصف العنيفة، والفيضانات الكاسحة، فضلاً عن موجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق. اللافت أن هذه الظواهر لم تعد محصورة في مناطق محددة، بل بدأت تمتد إلى مناطق كانت حتى وقت قريب بمنأى عن مثل هذه الأزمات أو لم تكن تعرفها بهذا القدر من الحدة والتكرار.

وتُعد ألمانيا مثالاً بارزاً على هذا التحول، إذ سجّلت البلاد خلال الأعوام الماضية سلسلة غير مألوفة من الكوارث الطبيعية، من الجفاف الحاد وارتفاع الحرارة إلى العواصف الشديدة والفيضانات المفاجئة. هذه الظواهر أثّرت على مختلف أنحاء البلاد من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، وأسفرت عن خسائر مادية جسيمة، سواء من حيث الأضرار المباشرة في البنية التحتية والممتلكات، أو من حيث التأثيرات غير المباشرة على الاقتصاد والإنتاج الزراعي. وتُظهر التقديرات أن هذه الخسائر مرشحة للتزايد في المستقبل القريب.

تشهد الزراعة الألمانية تغيرات متسارعة نتيجة للتغير المناخي، ما يطرح تحديات كبيرة ويظهر الحاجة لتبني استراتيجيات تكيفية مستدامة. فزيادة درجات الحرارة على مدى العقود الماضية، مع تقلبات مناخية حادة تشمل فصول شديدة الحرارة وأمطار غزيرة وعواصف، أثرت على إنتاجية المحاصيل واستقرار الإمدادات الزراعية.

منذ عام 1881م، سجلت ألمانيا زيادة ثابتة في متوسط درجات الحرارة السنوية، هذا التغير يؤثر على نباتات البذار الأولية مثل القمح واللفت فأحيانًا لا تصل النباتات إلى مستوى البرودة الضروري لتزهرها، مما يؤدي لتراجع الإنتاجية. كما أن موجات الحَر خلال فترات الإزهار يمكن أن تقلل إنتاج الحبوب بنسبة كبيرة، بالإضافة إلى خطر الصقيع المتأخر الذي يهدد إنتاج أشجار الفاكهة والكروم. كما يؤدي الجفاف الى تقليل قدرة النباتات على امتصاص الماء والتغذية، ما يؤدي إلى فقدان المحاصيل. وفي الشتاء يحدث اختناق للمياه وتعرية للتربة بعد الأمطار الغزيرة، فيما تزداد مخاطر البَرَد والعواصف التي تهدد الأشجار والمحاصيل الزراعية.

وأظهرت دراسة شاملة استنادًا إلى بيانات إحصائية للفترة من 1995م إلى 2019م، أن يوم جفاف واحد يقلل متوسط إنتاجية قمح الشتاء بنسبة 0.36 في المئة، مما يؤدي لخسائر مالية سنوية تتجاوز 23 مليون يورو على مستوى المزارع الألمانية. كما نتج عن صيف 2018م جفاف استثنائي تراجع فيه إنتاج الحبوب بنسبة تصل إلى 18 في المئة، وتحمل القطاع الزراعي خسائر بنحو 770 مليون يورو. تعمل الجهات المعنية مثل وكالة البيئة الألمانية على تطوير حلول متنوعة: منها اعتماد أصناف نباتية مقاومة للجفاف والحرارة، بما يعزز مرونة الإنتاج ويقلل الاعتماد على الطقس. تحسين ممارسات الزراعة مثل تدوير المحاصيل، الزراعة بدون حرث، واستخدام نظم ري ذكية كالتنقيط، لرفع كفاءة استخدام المياه والحفاظ على التربة. اتباع تدابير حماية ضد العواصف والبَرَد مثل شبكة الحماية الزراعية والتأمينات المتخصصة.

التحول الرقمي والفرص التي يمنحها لقطاع الزراعة في المانيا

في العقود الأخيرة، شهد قطاع الزراعة في ألمانيا تحولاً جذرياً لم يقتصر فقط على تحديث المعدات وميكنة العمليات، بل امتد ليشمل تبني التقنيات الرقمية الحديثة التي باتت تشكل العمود الفقري للزراعة المستقبلية. ومع تزايد التحديات البيئية والمناخية، وضغوط الأمن الغذائي، والطلب العالمي على إنتاج مستدام وآمن، أصبح التحول الرقمي في الزراعة ليس خياراً ترفيهياً، بل ضرورة استراتيجية.

وتشير التقديرات إلى أن سوق التكنولوجيا الزراعية الرقمية في ألمانيا تجاوز 9.3 مليار يورو في عام 2023م، ما يجعل ألمانيا من بين الدول الرائدة عالمياً في هذا المجال. ويتوقع أن ينمو هذا السوق بوتيرة متسارعة، إذ تشير دراسات حديثة إلى أن سوق البرمجيات الزراعية وحده وصل إلى نحو 72 مليون يورو مع نهاية عام 2024م. في المقابل، وصلت مبيعات المعدات الزراعية محلياً إلى 5.6 مليار يورو، بينما تجاوزت الصادرات 13 مليار يورو، ما يعكس أهمية التحول الرقمي في تعزيز القدرة التنافسية لهذا القطاع.

ولا يقتصر التحول الرقمي على الأرقام والمبيعات، بل يشمل تغيراً ملموساً في نمط الزراعة نفسها. ففي عام 2024م، أظهرت استطلاعات رأي أن 90 في المئة من المزارع الألمانية تستخدم شكلاً من أشكال التقنيات الرقمية. وتشير البيانات إلى أن 69 في المئة من المزارع مزودة بآلات تعتمد على نظام GPS، بينما تعتمد 68 في المئة منها على الخرائط الرقمية لإدارة الحقول. وفي السياق نفسه، تستخدم 46 في المئة من المزارع أنظمة رقمية لإدارة القطيع والإنتاج، وتوظف 36 في المئة تقنيات تحديد الكميات المثلى للأسمدة و30 في المئة لتحديد مبيدات الآفات بشكل دقيق.

ومن أهم الابتكارات التي أحدثت نقلة نوعية في الزراعة، تقنيات الزراعة الدقيقة، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء لتحليل البيانات المناخية والتربة والنباتات. تسمح هذه التقنيات باتخاذ قرارات مدروسة حول الري والتسميد والحصاد، مما يقلل الهدر ويزيد من الإنتاجية. كما تُستخدم الطائرات بدون طيار لمراقبة المحاصيل، وتوظف الروبوتات في إزالة الأعشاب الضارة دون الحاجة إلى مبيدات كيميائية، ما يساهم في حماية البيئة.

رغم التقدم الذي تحقق في استخدام التقنيات الرقمية في الإنتاج الزراعي بمختلف أنواعه، لا يزال القطاع يواجه بعض التحديات، أبرزها ارتفاع تكاليف الاستثمار في التقنيات الحديثة، وضعف البنية التحتية الرقمية في بعض المناطق الريفية، إضافة إلى مخاوف من فقدان السيادة على البيانات. وتشير الدراسات إلى أن 75 في المئة من المزارعين يعتبرون تكلفة الاستثمار عائقاً رئيسياً، في حين يرى 49 في المئة منهم أن أمن البيانات الرقمية يمثل مصدر قلق. كما يعاني نحو 41 في المئة من المزارعين من نقص المهارات التقنية المطلوبة للتعامل مع التقنيات الجديدة.

وفي المقابل، توجد فرص واعدة تدعم استمرار هذا التحول. فهناك توجه متزايد نحو التعاون بين شركات التقنية الناشئة والمزارع التقليدية لتطوير حلول عملية منخفضة التكلفة. كما شهدت السنوات الأخيرة نمواً في التجمعات الزراعية التكنولوجية (Clusters) مثل Agrotech Valley في ولاية ساكسونيا السفلى، والتي توفر بيئة ابتكار وتبادل خبرات بين الباحثين والمزارعين والمستثمرين.

ان التحول الرقمي في الزراعة الألمانية ليس فقط وسيلة لزيادة الكفاءة الإنتاجية، بل أصبح أداة فعالة لتحقيق الاستدامة البيئية، وتحسين نوعية الغذاء، وتقوية الاقتصاد الريفي. ومع دخول تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والروبوتات الزراعية مرحلة التطبيق الواسع، فإن ألمانيا تستعد لتكون نموذجاً يحتذى به في الزراعة الذكية، قادراً على الاستجابة لمتطلبات المستقبل، وتحديات المناخ، واحتياجات السكان المحليين والدوليين.