منذ ان علمت بتكليفي سفيرا لبلادي الى جمهورية المانيا الاتحادية وتسلمي لهذا المنصب المهم، بعد تقديم أوراق اعتمادي الى فخامة الرئيس فرانك فالتر شتاينماير في أيلول 2021، وانا اشعر بحجم وأهمية المسؤولية الملقاة على عاتقي. اذ تستوجب هذه المسؤولية مني إدارة واحدة من أهم العلاقات الخارجية للعراق مع دولة محورية مثل المانيا التي ينظر اليها الغالبية العظمى من العراقيين، ان لم يكن جميعهم، بانها الدولة الصديقة التي تمتلك الحلول السهلة للمشاكل الصعبة التي لطالما عانى منها العراق وعلى رأسها مشكلة توليد الطاقة الكهربائية، ومن المنطقي والطبيعي ان اشعر بهذا الضغط لأنني سأكون مسؤولا ولو جزئيا في المساهمة في تحقيق هذا الهدف، فضلا عن السعي الى تنشيط وتعزيز التعاون بين الجانبين قدر المستطاع وبما يحقق المصالح ذات الأولوية التي ستعود بالنفع على الشعبين الصديقين وبالتالي على العلاقات الثنائية بين البلدين.
ومع ذلك، فلا يمكن انكار حقيقة بان البلدين يتمتعان بمستوى لا بأس به من التعاون وبأن كليهما يدرك أهمية الاخر ضمن موقعه الجيوسياسي. فقد كانت المانيا، على سبيل المثال، اول محطة يحل عليها ضيفا السيد محمد شياع السوداني ضمن جولته الاوربية التي كانت الاولى له على الاطلاق كرئيس لوزراء العراق، وهي تأتي تأكيدا على أهمية العلاقات مع المانيا باعتبارها واحدة من الدول المحورية الهامة على المستويين الدولي والاوربي.
اذ أسهمت هذه الزيارة في وضع ملامح رئيسية لشكل التعاون الثنائي المستقبلي بين المانيا والعراق، والذي كان لنا بمثابة خارطة طريق لتعزيز التعاون المشترك في عدد من المجالات الهامة كالطاقة، ونقل التكنولوجيا، ومكافحة التأثيرات السلبية للمناخ، وتعزيز العلاقات بين مجتمع الاعمال لكلا البلدين، وأيضا مساعدة العراق في مجال الإصلاحات الاقتصادية والمالية، فضلا عن ان الشعب الالماني قدم لنا تجارب ودروس عديدة ناجحة على مدى التاريخ تجسدت في التماسك والتعاضد وعدم الاستسلام للظروف الصعبة، وهو موضع احترام وتقدير الكل لأنه شعب مكافح ويعمل بجد لتحقيق الرفاهية والازدهار، وان هذه الدروس والتجارب جديرة بالدراسة والتعلم منها ونقلها الى العراق.
وبطبيعة الحال، فنحن العاملون في الحقل الدبلوماسي والعلاقات الخارجية نعلم جيدا بان المتغيرات والمفاجئات في البيئة الدولية تعد سمة ملازمة لها، اذ ان هذه المتغيرات أحيانا تكون عاملا يسهم اما في تعزيز الامن والاستقرار وبالتالي يسهل علينا، كممثلين لبلداننا، مهمة توثيق روابط التعاون وتحقيق المصالح المشتركة، او أحيانا تسهم هذه المتغيرات في الابطاء من عملية تطوير هذه الروابط بالاعتماد على الخيارات التي تتخذها الدول.
شهدت السنوات الاربع الماضية التي عملت بها سفيرا لبلادي في المانيا حدوث احداث دولية هامة ولدت تحولات سياسية وامنية كبيرة، ولا بد الإشارة هنا الى الحرب الروسية في أوكرانيا، والى الحرب الإسرائيلية في فلسطين ومؤخرا مع الجمهورية الإسلامية في ايران. فهذه الاحداث بالتأكيد وضعت النظام الدولي برمته تحت الاختبار، وهي أيضا، وبدون أدنى شك، وضعت ضغطا كبيرا على الدول، وخصوصا القريبة من مركز هذه الاحداث كالعراق وألمانيا، واجبرتها أحيانا على إعادة ترتيب اولوياتها، وهذا ما جعل من مهمتي كسفير في برلين، في هذه المرحلة الصعبة، امرا استثنائيا، خصوصا وان العراق يتجاوز حدود السردية السائدة عنه في المانيا، فهو بلد رائع يمتاز بالتنوع الاجتماعي والثقافي والتاريخي ويسعى بقوة لبناء ديموقراطيتة الناشئة، وبالرغم من كل ما مر به، الا انه مصر على النهوض والصمود، ويسعى دوما الى التهدئة والوساطة والى مد جسور التعاون وإطلاق المبادرات التي تهدف الى توسيع دائرة المصالح المشتركة بين مختلف الدول كسبيل للتغلب على الخلافات والتشنجات الإقليمية، انطلاقا من ايمانه بان العلاقات بين الدول يجب ان تقودها القيم الإنسانية التي نشترك بها جميعا، فضلا عن ان العراق يقف على أرضية مشتركة مع المانيا في تأكيده على أهمية احترام القواعد والقوانين في النظام الدولي لأنه امر بالغ الأهمية لضمان السلام والاستقرار والعدالة بين الدول، ودعم جميع المبادرات والحوارات والجهود الدبلوماسية الرامية الى منع الحروب والصراعات وتعزيز أسس السلام الدائم والبناء بين جميع الشعوب.
لا أخفي حقيقة انني كنت أتطلع الى تحقيق المزيد من التعاون في العديد من المجالات مع المانيا وخصوصا تعزيز تواجد قطاع الاعمال الألماني في السوق العراقية الذي بات مع الوقت، في ظل التحديات التي تعصف بمنطقتينا، هدفا طموحا، الا ان العراق وهو يمر في مرحلة تقويم المسار، عازم على تعزيز امنه واستقراره من خلال تبنى مجموعة من البرامج الإصلاحية التي تهدف الى جعله سوقا واعدا وجذابا للاستثمارات الخارجية، فهو يتمتع بطاقات وثروات هائلة تؤهله من تحقيق نهضة اقتصادية وتنموية هائلة معززة ببرامج سياسية واقتصادية تهدف الى تعزيز امنه واستقراره من خلال تبنيه لسياسة خارجية بناءة تقوم على احترام سيادة الدول والالتزام بمقاصد ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والدعوة الدائمة الى تغليب الدبلوماسية والحوار لأنها السبيل الوحيد لتحقيق السلام والازدهار.
وأود ان اختم قولي هنا من خلال الاعراب عن عميق امتناني للدولة الألمانية وشعبها الكريم على ما لمسته منها من رعاية واهتمام، وأود ان اشيد بمستوى التعاون الذي وصلنا اليه سوية في بعض المجالات والذي أثمر عن نتائج طيبة نأمل ان تسهم في تعزيز العلاقات بين البلدين، التي نعتقد بانها تحتاج الى مزيد من العمل والتعاون لأجل بلوغها مستوى الطموح الذي نأمل في تحقيقه، اذ ان هناك فرص ومجالات كثيرة للتعاون المشترك بانتظار الجانبين، وأتمنى ان تترجم اكثر الخطابات السياسية الايجابية إلى أفعال تفضي إلى نتائج ملموسة على ارض الواقع، خصوصا وان العراق بحاجة إلى أصدقائه للوقوف إلى جانبه وهو يشق طريقه نحو تعزيز دعائم الأمن والاستقرار والتنمية والديمقراطية.
وفي الختام أتمنى لألمانيا حكومة وشعبا دوام التقدم والازدهار، ونعرب عن املنا في ان تتزايد الجهود والأصوات الداعية إلى تحقيق السلام في القارة الأوروبية، وتجنب التصعيد واستخدام لغة الحوار فقط، بل نتمنى ان تكون المانيا مثالا يحتذى به في فرض الدبلوماسية المؤدية إلى السلام.
بقلم السفير لقمان عبد الرحيم الفيلي