يتوقع البنك المركزي الألماني (Bundesbank) أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا خلال الربع الثاني من العام الجاري مقارنة بالربع الأول. ويرجع تقرير صادر عن البنك هذا الانخفاض المتوقع الى عدة أسباب منها ان الربع الأول شهد ارتفاع الصادرات والإنتاج الصناعي تحسبًا لزيادة الرسوم الجمركية الأمريكية ولم يكن نتيجة زيادة حقيقة في الطلب. كما أن قطاع الخدمات لم يتمكن في الربع الثاني من تحقيق نمو الا بشكل طفيف، وذلك بسبب الضعف المستمر في الاستهلاك الخاص. أما قطاع البناء، فما زال يعاني من انخفاض الطلب وتراجع النشاط.
وذكر خبراء البنك أن الطلب على المنتجات الصناعية الألمانية من الداخل والخارج قد تحسن قليلًا، إلا أنه ما زال منخفضًا عمومًا. كما ان الصادرات الألمانية تواجه مخاطر إضافية بسبب السياسة الجمركية الأمريكية، حيث أعلن الرئيس الأمريكي ترامب مؤخرًا عن فرض رسوم إضافية بنسبة 30 في المئة على واردات المنتجات الأوروبية اعتبارًا من الأول من أغسطس 2025م، بدلًا من نسبة 10 في المئة المطبقة منذ أبريل، ما لم يتم التوصل إلى اتفاق قبل ذلك. وكان البنك المركزي قد اعتمد في توقعاته على فرضية استمرار الرسوم عند 10 في المئة فقط. ولذلك حذر الاقتصاديون من أن تطبيق النسبة الجديدة يمثل خطرًا كبيرًا على النمو الاقتصادي.
من جهة أخرى، أشار التقرير إلى أن الإنتاج الصناعي قد حقق زيادة طفيفة في المتوسط بين أبريل ومايو مقارنة بالربع السابق، بدعم من قطاع صناعة السيارات. وبهذا يسجل القطاع نموًا للربع الثاني على التوالي بعد سبعة أرباع من التراجع المستمر. لكن لم تحقق جميع القطاعات الصناعية نتائج إيجابية، إذ بقي إنتاج السلع الوسيطة، مثل الصناعات الكيميائية والمعدنية، أقل من متوسط الربع الأول خلال أول شهرين من الربع الثاني.
كما أفاد تقرير البنك المركزي الألماني بأن ضعف نمو الاقتصاد الألماني الحالي والركود الذي شهده خلال عامي 2023-2024م يعود جزئياً الى الأداء الضعيف لصادرات ألمانيا خلال السنوات الماضية والذي ترافق مع خسائر كبيرة في حصتها في الأسواق العالمية. وأوضح أن حصة صادرات ألمانيا الى الأسواق العالمية شهدت تراجعًا مستمرًا منذ عام 2017م، وازداد هذا الانخفاض بشكل خاص منذ عام 2021م، مما ساهم بشكل كبير في ضعف نمو الناتج المحلي الإجمالي. وأشار التقرير إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع خسائر الحصص السوقية بين عامي 2021م و2023م تعود إلى تراجع القدرة التنافسية للمنتجات الألمانية. فقد انخفضت التنافسية في العديد من القطاعات، وهو ما يعكس وجود تحديات هيكلية عميقة تواجه الاقتصاد الألماني وتثقل كاهل الشركات، مثل التغير الديموغرافي، ونقص العمالة الماهرة، وارتفاع تكاليف الأجور، فضلًا عن زيادة البيروقراطية. وأضاف التقرير أن قطاعات صناعة المعدات والآلات، والصناعات الكهربائية، والصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الكيماويات، كانت الأكثر تضررًا من هذا التراجع.
وبحسب التقرير فان القدرة التنافسية لألمانيا تراجعت مقارنةً بدول صناعية متقدمة أخرى، حيث تعاني الشركات الألمانية من نقص العمالة حتى في فترات الانتعاش الاقتصادي، وهو أمر لا يظهر بهذه القوة في الدول الأخرى. كما أصبحت الصين منافسًا مباشرًا للشركات الألمانية، إذ أظهرت البيانات أنه منذ عام 2019م فقدت الصادرات الألمانية حصصًا سوقية لدى شركائها التجاريين الرئيسيين في الأسواق التي وسعت فيها الصين وجودها، وهو نمط لم يكن ظاهرًا بهذه الصورة في السنوات السابقة. وبيّن التقرير أن ضعف الطلب العالمي على صادرات مهمة للاقتصاد الألماني، مثل السيارات وتقنيات الطيران، أسهم أيضًا في تراجع الحصة السوقية للبلاد.
أيضاً يضاف الى أسباب ضعف النمو الاقتصادي انخفاض استثمارات الشركات الألمانية، حيث أظهر تقرير صادر عن بنك التنمية الحكومي الألماني (KfW)، أن استثمارات الشركات في ألمانيا تراجعت خلال الربع الثالث من عام 2024م بنسبة 6.5 في المئة مقارنة بمستويات نهاية عام 2019م. ويعكس هذا الأداء الضعيف فجوة واضحة مقارنة بالدول الكبرى، إذ تجاوزت الاستثمارات الخاصة في الولايات المتحدة مستويات نهاية 2019م بنسبة 14 في المئة، بينما سجلت كل من فرنسا واليابان معدلات نمو استثماري أعلى بكثير من ألمانيا. ويرى الخبراء أن هذا التراجع يثير القلق، لاسيما أن 87 في المئة من الاستثمارات في ألمانيا مصدرها القطاع الخاص، مقابل 13 في المئة فقط تأتي من الاستثمارات العامة. هذا الأداء الضعيف تحاول الحكومة الألمانية التغلب علية وكانت القمة الاقتصادية التي عقدها المستشار الألماني وأركان حكومته تصب في هذا الاتجاه تحت مبادرة صنع من أجل ألمانيا (Made for Germany)، والتي أعلن خلالها عن استثمارات تفوق ال 600 مليار يورو بحلول العام 2028م.
وأكد تقرير البنك المركزي ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لتعزيز النمو، بما يشمل إيجاد بيئة تنظيمية داعمة للتوظيف والاستثمار، وتقوية الحوافز للعمل، وتسهيل استقدام العمالة الماهرة، وتقليل الأعباء البيروقراطية، فضلًا عن زيادة الحوافز الضريبية للاستثمارات الخاصة. ودفع التحول في مجال الطاقة بكفاءة، ودعم تنويع سلاسل التوريد من خلال اتفاقيات تجارة حرة جديدة. واختتم التقرير بالتأكيد على أن ألمانيا لن تتمكن من استعادة مستوى النمو الذي حققته خلال فترة العشر سنوات ما بين 2010م-2019م، دون تنفيذ إصلاحات جذرية.
سوق العمل: تراجع طفيف للبطالة ونحو 6.6 مليون عامل سيستفيدون من رفع الحد الأدنى للأجور
أشار تقرير وكالة العمل الاتحادية (BA)، عن تطورات سوق العمل الى ان عدد العاطلين عن العمل قد انخفض في يونيو 2025م بشكل طفيف بمقدار 5,000 شخص ليصل إلى 2,914,000 شخص. وبالمقارنة مع يونيو من العام الماضي، فإن عدد العاطلين عن العمل أعلى بمقدار 188,000 شخص. وظل معدل البطالة خلال شهر يونيو ثابتًا عند 6.2 في المئة. أما مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، فقد ارتفع المعدل بمقدار 0.4 نقطة مئوية.
وصرحت Andrea Nahles، رئيسة مجلس إدارة وكالة العمل الاتحادية (BA)، تعليقا على التقرير “لا يزال سوق العمل يظهر آثار الضعف الاقتصادي حيث تتطور البطالة بشكل غير مواتٍ، كما أن استعداد الشركات للتوظيف لا يزال منخفضًا.”
وفيما يتعلق ببرنامج العمل بدوام جزئي فقد بلغ عدد الموظفين الجدد المسجلين خلال الفترة من 1 حتى 25 يونيو 2025م، حوالي35,000 شخص. وبحسب أحدث بيانات مكتب العمل الاتحادي فقد تم دفع تعويضات العمل بدوام جزئي لنحو 214 ألف موظف في شهر أبريل 2025م، وهو ما يقل بمقدار 44,000 شخص عن الشهر السابق و1,000 شخص عن أبريل من العام الماضي. كذلك بلغ عدد الوظائف الشاغرة المسجلة لدي مكتب العمل الاتحادي في يونيو 2025م، 632,000 وظيفة شاغرة، أي أقل بمقدار 69,000 وظيفة عن العام الماضي.
في سياق متصل، اتفقت لجنة الحد الأدنى للأجور المشكلة من قبل أطراف الحكومة الألمانية في نهاية يونيو على أن يتم رفع الحد الأدنى للأجور على مرحلتين، الأولى تبدأ من العام 2026م، ويتم رفع الحد الأدنى الى 13.90 يورو للساعة، وبحلول بداية عام 2027م سيصل إلى 14.60 يورو للساعة. حاليًا يبلغ الحد الأدنى للأجور 12.82 يورو. ووفقًا لتقديرات مكتب الإحصاء الاتحادي فإن رفع الحد الأدنى القانوني للأجور المخطط له سيعود بالنفع على العاملين وستصل أثاره إلى 6.6 مليون وظيفة في جميع أنحاء ألمانيا.
ووفقًا للتقديرات، ستستفيد النساء من الزيادة المقبلة في الحد الأدنى للأجور بنسبة أعلى من الرجال: حيث سترتفع الأجور بالساعة في حوالي 20 في المئة من وظائف النساء، مقابل حوالي 14 في المئة فقط من وظائف الرجال. أما من حيث القطاعات، فإن قطاع الضيافة هو الأكثر تأثرًا بالزيادة المخطط لها في الحد الأدنى للأجور، حيث ستستفيد منها نسبة تصل إلى 56 من القوى العاملة في القطاع. وفي قطاع الزراعة والغابات وصيد الأسماك، تبلغ النسبة 43 في المئة. كذلك سيستفيد قطاع الفنون والترفيه والاستجمام بشكل كبير بنسبة تصل إلى حوالي 40 في المئة. وبين العاملين في الوظائف منخفضة الأجر (Mini-Jobs)، سيحصل 59 في المئة على أجور أعلى بفضل رفع الحد الأدنى للأجور، بينما تبلغ النسبة بين العاملين بدوام جزئي حوالي 16 في المئة، وبين العاملين بدوام كامل 6 في المئة فقط.
وأظهرت البيانات وجود فروق إقليمية، إذ تبلغ نسبة الوظائف المتأثرة في شرق ألمانيا حوالي 20 في المئة، وهي أعلى منها مقارنة بغرب ألمانيا التي تبلغ فيها النسبة حوالي 16 في المئة. وعلى مستوى جميع الولايات الألمانية، سجلت مكلنبورغ-فوربومرن أعلى نسبة وظائف متأثرة بالزيادة (22 في المئة)، تليها ساكسونيا (21 في المئة)، وساكسونيا أنهالت (19.7 في المئة)، وتورينغن (19 في المئة). أما أدنى نسبة فكانت في هامبورغ (14 في المئة)، كما ستعود الزيادة المقبلة بالنفع بشكل أقل من المتوسط على العاملين في بافاريا (14.6 في المئة)، وبادن-فورتمبيرغ (15 في المئة)، وبرلين (15.5 في المئة).
شركات ألمانية كبرى تتعهد باستثمار 631 مليار يورو في ألمانيا
عقد في مقر المستشارية في برلين لقاء ضم المستشار فريدريش ميرتس، ولارس كلينجبايل نائب المستشار ووزير المالية، ووزيرة الاقتصاد كاترينا رايشه من الجانب الحكومي مع نحو 30 من رؤساء ومدراء كبرى الشركات الألمانية والتي من بينها أكثر من عشرة شركات مدرجة في مؤشر DAX. الى جانب ممثلين لكبرى الشركات العالمية العاملة في ألمانيا. وقد أطلق على هذا اللقاء اسم “قمة الاستثمار”. وكان من ضمن الشركات التي حضر ممثلوها اللقاء شركة سيمنز وشركة Allianz للتأمين ومصرف Deutsche Bank، وكذلك شركة KKR للاستثمار وإدارة الاصول وشركة BlackRock لإدارة الاستثمار والتكنولوجيا المالية، والتي كان المستشار ميرتس يومًا ما رئيس مجلس الإشراف لفرعها في ألمانيا. كما حضر ممثلون عن Blackstone لإدارة الاستثمارات والخدمات المالية وNvidia للتكنولوجيا والحوسبة عالية الاداء، وكذلك ممثلين عن Airbus لصناعة الطائرات وBMW لصناعة السيارات وDeutsche Börse وMercedes-Benz لصناعة السيارات وRheinmetall للصناعات الدفاعية وSAP للبرمجيات وVolkswagen لصناعة السيارات.
وكانت 61 شركة ألمانية كبرى قد أعلنت عن تأسيس مبادرة تحت اسم “صُنع لأجل ألمانيا” (Made for Germany)، يعتزم أعضاؤها استثمار 631 مليار يورو في ألمانيا خلال السنوات الثلاث المقبلة، وذلك وفقًا لبيان صدر عن هذه الشركات قبيل الاجتماع مع المستشار ميرتس. وتشمل هذه المبالغ استثمارات رأسمالية مخططاً لها مسبقًا وجديدة، إضافةً إلى نفقات البحث والتطوير والتزامات من مستثمرين دوليين. وأوضح البيان أن مبلغا بمئات المليارات، وهو جزء كبير من إجمالي هذه الاستثمارات، سيذهب إلى استثمارات جديدة. وتهدف هذه المبادرة إلى إرسال إشارة إيجابية قوية بأن ألمانيا موقع استثماري جذاب. ووفقًا للبيان، سيتم استثمار هذه الأموال في مواقع ومرافق جديدة داخل ألمانيا، وكذلك في البحث والتطوير وتحديث البنية التحتية. ومن بين المشاركين في المبادرة، Christian Sewing، الرئيس التنفيذي لدويتشه بنك، Roland Busch، رئيس شركة سيمنز، وMathias Döpfner، الرئيس التنفيذي لمجموعة أكسل شبرينغر الإعلامية، بالإضافة الى Axel Geiser، الرئيس التنفيذي لشركة FGS Global.
وقد وصف المستشار ميرتس هذه المبادرة بانها «إحدى أكبر مبادرات الاستثمار التي شهدناها في العقود الأخيرة». وأضاف «إنه بات من المفيد الاستثمار مجدداً». وأكد قائلاً: «هذه الحكومة تريد أن تدفع ألمانيا إلى الأمام مرة أخرى».
من جانبه، أشاد Clemens Fuest، رئيس معهد ifo للأبحاث الاقتصادية في ميونيخ، بهذه المبادرة واعتبرها خطوة في الاتجاه الصحيح، مشيرًا إلى أن ألمانيا تعاني حاليًا من نقص في الاستثمارات، حيث قال: “نحن حالياً أقل بحوالي 7 في المئة من مستوى عام 2019م فيما يخص الاستثمارات”. ومع ذلك، أبدى Fuest، بعض الشكوك حول حجم الاستثمارات الجديدة المعلنة، موضحًا أن جزءًا منها كان مخططًا له بالفعل، وأن السؤال الجوهري هو: ما هي قيمة الاستثمارات الجديدة التي ستتحقق؟ وأضاف: “يجب علينا الانتظار لنرى ما الذي سيتحقق فعلاً”.
وأبدى Jens Boysen-Hogrefe، الباحث الاقتصادي في معهد الاقتصاد العالمي IfW في كيل، رأيًا مماثلًا، مشيرًا إلى أن العديد من التزامات الشركات كانت ستتم على أي حال، وقال: “ما يحدث حول هذه الاستثمارات هو المهم. فمن وجهة نظر الشركات، يتعلق الأمر بالكثير من العقود التي ستطرحها الدولة قريباً في ظل إمكانيات الاقتراض الجديدة”. وطالب بأن تركز الدولة بشكل خاص على تحسين جودة موقع الاستثمار في ألمانيا.
من جانبها رحبت Monika Schnitzer، عضوة مجلس حكماء الاقتصاد، بإعلان الشركات والمستثمرين الـ 61 نيتهم الاستثمار، ووصفت ذلك بأنه “إشارة إيجابية”. وقالت إن الشركات تُظهر بذلك أنها “تؤمن من حيث المبدأ بألمانيا كموقع استثماري”. وأضافت Schnitzer، أن الحكومة الاتحادية تعتمد على استثمارات هذه الشركات لتتمكن مجددًا من تحقيق معدلات نمو إيجابية. وأشارت إلى أنه “لكي تتحول هذه الإعلانات الكبرى إلى أفعال كبيرة، فإن الشركات ستتوقع من الحكومة الألمانية توفير أمن التخطيط، والدعم السياسي، وربما المالي أيضًا، لمشروعاتها”.
وفيما يخص اجتماع الشركات مع المستشار ونائبة في دار المستشارية، أثير جدل حول تركيبة المشاركين، حيث يشارك فيه في الغالب شركات كبرى. وقال Boysen-Hogrefe،” ما يهم حقًا بالنسبة لألمانيا هو العدد الكبير من الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهذه لا تجلس على طاولة النقاش”. وبدوره أكد Clemens Fuest، “عندما تستثمر الشركات الكبرى، فإن ذلك يترافق مع طلبيات للموردين والشركات الأصغر، وهذا ينعكس عليها إيجابًا”. لكنه حذر من أن على السياسة ألا تنسى أبدًا الشركات المتوسطة، مضيفًا: “إذا تحدثنا عن إزالة البيروقراطية، فإن الشركات المتوسطة تحتاج ذلك بشدة”.
وترافقت تعهدات الاستثمار من الشركات الـ 61 مع مطالب واضحة موجهة إلى السياسة. وقال Sewing، رئيس دويتشه بنك وأحد المشاركين بمبادرة “صنع لأجل ألمانيا”، “نحن بحاجة الآن إلى إشارة واضحة للمجتمع بأن شيئًا ما يتحرك هنا”. وأضاف أنه بصفته تحالفًا للعديد من الشركات الرائدة، فإنهم يريدون التعاون مع السياسة للمساهمة في إعادة ألمانيا إلى مسار النمو، مشيرًا إلى أن ذلك قد يؤدي أيضًا إلى تغيير في المزاج العام. وقال Busch، رئيس شركة سيمنز “نحن بحاجة إلى شجاعة سياسية لإحداث تغييرات هيكلية، ويجب أن تلي ذلك خطوات كبيرة”.
وفيما يخص جانب التمويل، أشار المتحدث باسم الحكومة إلى أن الديون لا يمكن أن تغطي سوى جزء من الاستثمارات الضرورية، بينما يجب أن يأتي جزء كبير من الاستثمارات من القطاع الخاص. وكانت الحكومة الالمانية من جانبها قد أقرت مؤخرًا، بموافقة البرلمان ومجلس الولايات، صندوقًا خاصًا بقيمة 500 مليار يورو لتمويل استثمارات الدولة الإضافية في البنية التحتية وحماية المناخ. ومع ذلك، فإن تفاصيل الإصلاحات الجوهرية التي وعد بها المستشار ميرتس، ما تزال غير واضحة، رغم شكاوى الشركات المتكررة من البيروقراطية المفرطة.
مبادرة حكومية لدعم الشركات الناشئة في ألمانيا
تحتضن ألمانيا عددًا من الشركات الناشئة الرائدة، من بينها Isar Aerospace المتخصصة في تكنولوجيا الفضاء، وMarvel Fusion التي تعمل على تطوير تقنيات الاندماج النووي، إضافة إلى Celonis المنافسة لشركة SAP في حلول البرمجيات التحليلية. وقد انطلقت هذه الشركات جميعها من مركز UnternehmerTUM في ميونيخ، التابع للجامعة التقنية بميونيخ (TUM)، والذي يساهم في تأسيس أكثر من 100 شركة ناشئة سنويًا، مما يجعله أكبر مركز لريادة الأعمال في أوروبا.
الآن، تعمل وزارة الاقتصاد الاتحادية على نسخ هذا النموذج الناجح وتعميمه في جميع أنحاء ألمانيا. ولهذا الغرض تم اختيار عشرة مشاريع موزعة على مختلف ولايات ألمانيا. وستعتمد هذه المشاريع الناشئة الجديدة على الصناعات القائمة في مناطقها، لتتحول إلى ما يُسمى «مصانع ناشئة». كما تهدف مبادرة الحكومة لتعزيز ربط جميع المصانع الناشئة الحاصلة على التمويل والدعم ببعضها البعض لزيادة التأثير. وهذه العشرة مشاريع ستتلقى دعمًا على مدى السنوات الخمس المقبلة. وتقف خلف هذه المشاريع 126 جامعة ومؤسسة بحثية، بالإضافة إلى 144 شريكًا تمويليًا وتعاونيًا من قطاع الأعمال.
تتوزع المشاريع الفائزة على مختلف أنحاء ألمانيا، وتشمل قائمة المبادرات مجموعة من أبرز المشاريع البحثية والابتكارية. من بينها مبادرة Unite التي تضم 30 مؤسسة بحثية في منطقة برلين-براندنبورغ، وتركّز على تعزيز التعاون في البحوث التطبيقية. أما مشروع Nxtgn Start-up-Factory في ولاية بادن-فورتمبيرغ، فيعمل كحاضنة أعمال لتأسيس الشركات الناشئة التقنية. وفي مدينة فرانكفورت، تنشط مبادرة Futury التي تركز على تطوير حلول مبتكرة للاستدامة. بينما تستضيف هامبورغ مبادرة Impossible Founders، وهي منصة لدعم ريادة الأعمال الاجتماعية. وتعمل مبادرة BoOst في ولايتي ساكسونيا وتورينغن، وتركز على تسريع الابتكار الصناعي في الشركات المتوسطة. أما ولاية ساكسونيا السفلى فتشهد مبادرة GOeFuture المعنية بتطوير حلول رقمية للقطاع الصحي. وفي شمال بافاريا، تنشط Zohofactory كمركز لدعم الابتكار في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، في حين تضم ولاية شمال الراين-وستفاليا كلًا من Gateway Factory التي تدعم ريادة الأعمال الأكاديمية، وBryck-Allianz التي تركّز على تحويل الأفكار البحثية إلى نماذج أعمال قابلة للتطبيق. وفي جنوب غرب ألمانيا، تعمل مبادرة Bridge-Initiative في ولايتي راينلاند-بفالتس وزارلاند، وتختص بتعزيز نقل المعرفة بين الجامعات والشركات. ويعكس هذا الانتشار تنوع المشاريع الاقتصادية والبحثية التي تهدف إلى دعم الابتكار وريادة الأعمال في مختلف مناطق ألمانيا.
وستحصل هذه المشاريع مجتمعة على أكثر من 300 مليون يورو، سيأتي ثلثا التمويل من القطاع الخاص والثلث من الدولة. ويشارك في تمويل هذه المبادرة شخصيات اقتصادية بارزة من القطاع الخاص مثل Michael Otto وFriede Springer، إضافة إلى بنوك كبرى مثل دويتشه بنك وكوميرتس بنك، وسلاسل تجارية مثل Rewe وشركات صناعية مثل Schaeffler.
ويرى العديد من الخبراء ان هذه المبادرة الحكومية توفر إمكانيات عالية لتطوير وتوسيع مشهد الشركات الناشئة في ألمانيا. حيث أكد Tobias Henz، خبير التكنولوجيا في شركة الاستشارات الاستراتيجية ماكنزي: «تحليلاتنا تظهر أن نظامًا بيئيًا ناجحًا للشركات الناشئة في ألمانيا قد يتجاوز إجمالي القيمة السوقية للشركات الألمانية المدرجة على مؤشر DAX 40 بحلول عام 2030». ويعد ذلك إنجازًا غير مسبوق، حيث تبلغ القيمة السوقية الإجمالية الحالية لشركات مؤشر داكس الألماني نحو 2.3 تريليون يورو. أما البروفيسور Helmut Schönenberger، أستاذ ريادة الأعمال ومؤسس مركز UnternehmerTUM الذي أشرف على مسابقة اختيار المشاريع، فيقول: «نتوقع أن تُسهم هذه الشركات الناشئة الجديدة في تأسيس أكثر من 1000 شركة إضافية سنويًا». وللمقارنة، وبحسب تقرير صادر عن اتحاد الشركات الناشئة Startupdetector، تأسست العام الماضي في ألمانيا 2766 شركة ناشئة، بزيادة قدرها 11 في المئة عن عام 2023م.
وقالت وزيرة الاقتصاد الاتحادية Katherina Reiche، خلال حفل الإعلان عن المشاريع الفائزة في برلين: «من خلال هذه المسابقة نريد أن نظهر أننا نعمل على معالجة نقاط الضعف الحالية لدينا». وأضافت: «لدينا إرادة حقيقية لتحقيق المزيد من النجاح».
وكما تستلهم هذه المشاريع العشرة تجربة مركز UnternehmerTUM، فإن الأخير استلهم أسس عمله من نموذج النجاح الأشهر في العالم: جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، التي خرجت العديد من شركات وادي السيليكون العملاقة، الداعمة بقوة للاقتصاد الأمريكي. وفي هذا المجال قال البرفسور Schönenberger: «نحتاج إلى عصر جديد من ريادة الأعمال في ألمانيا. إذا تم توحيد الجهود هنا، يمكن تحقيق الكثير. فنحن ما زلنا ثالث أكبر اقتصاد في العالم.» لكن Verena Pausder، رئيسة اتحاد الشركات الناشئة أكدت على ضرورة الانطلاق سريعًا، وقالت: «بدون ثقافة ريادة أعمال في الجامعات، نهدر رأس مالًا مهمًا: المواهب والأفكار.» وأوضحت أن ألمانيا تتصدر عالميًا في تسجيل براءات الاختراع لكنها تتراجع في مجال تحويلها إلى منتجات تجارية.
ويقدم مركز UnternehmerTUM للشركات الناشئة دعمًا متكاملًا يشمل برامج متنوعة، بدءًا من الاستشارات الخاصة بتأسيس الشركات، مرورًا ببرامج تطوير المهارات القيادية، وصولًا إلى برامج التسريع التي تمتد لعدة أشهر لتعزيز نمو هذه الشركات وتسريع دخولها إلى السوق. وقد تأسس المركز عام 2002م بمبادرة وتمويل من سوزانه كلاتن إحدى ملاك شركة BMW. وتتعاون شركات كبرى مثل إيرباص وBMW وأليانز وSAP مع UnternehmerTUM منذ سنوات.
مساع حكومية للتوسع في استغلال حقول الغاز الطبيعي في ألمانيا
تسعى الحكومة الألمانية إلى توسيع نطاق إنتاج الغاز المحلي، وفي هذا الإطار يأتي الاتفاق الأخير مع هولندا حول الاستغلال المشترك لحقول الغاز في بحر الشمال كخطوة أولى في هذا الاتجاه. وينص الاتفاق على السماح لشركة One-Dyas الهولندية باستغلال حقول الغاز الواقعة في المنطقة الحدودية بين ألمانيا وهولندا في بحر الشمال. وقال Chris de Ruyter van Steveninck، الرئيس التنفيذي للشركة، إن شركته تستطيع من منصة حفر على الجانب الهولندي استغلال ثلاث حقول غازية في بحر الشمال. وأضاف: «أحدها يعمل بالفعل، حيث يذهب 65 في المئة من إنتاجه إلى هولندا و35 في المئة، وهي الكمية المستخرجة من الجزء الألماني من بحر الشمال، تذهب إلى ألمانيا».
وأكد van Steveninck، أن الإمكانيات في بحر الشمال أكبر بكثير مما يتم استغلاله حاليًا، مضيفًا أن شركته تخطط لبناء منصة حفر إضافية لاستغلال هذه الإمكانيات. وقال: «ينبغي لألمانيا أن تستغل جميع احتياطيات الغاز الطبيعي المتاحة لديها».
ووفقًا لاتحاد الغاز والنفط والطاقة الجوفية الألماني (BVEG)، بلغ إنتاج الغاز في ألمانيا العام الماضي 4.2 مليار متر مكعب، أي ما يعادل نحو 5 في المئة من إجمالي الاستهلاك الألماني. وتعتزم شركة One-Dyas إنتاج نصف مليار متر مكعب من الغاز هذا العام ضمن مشروعها الألماني-الهولندي، على أن يرتفع هذا الرقم لاحقًا. ويطالب اتحاد BVEG الحكومة بالإسراع في وضع الأسس السياسية والقانونية اللازمة لتوسيع إنتاج الغاز الطبيعي في ألمانيا ضمن استراتيجية أمن إمدادات الغاز. وأوضح الاتحاد أن توسيع إنتاج الغاز التقليدي ممكن تقنيًا، مضيفًا أن الإمكانيات «محدودة» لكنها «ذات أهمية».
ومنذ الحرب الروسية الاوكرانية، ارتفعت الأصوات المطالبة بزيادة إنتاج الغاز المحلي مجددًا. ففي بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، كان إنتاج الغاز المحلي يغطي أكثر من 21 في المئة من الاستهلاك الألماني، إلا أنه انخفض تدريجيًا بعد ذلك بسبب ارتفاع التكاليف ومعارضة السكان المحليين في مواقع حقول الغاز. لكن هذا الوضع قد يتغير الآن، إذ تشير مصادر في القطاع إلى أن الدعم السياسي يمكن أن يساعد في زيادة أنشطة الإنتاج. ويرى اتحاد BVEG أن توسيع إنتاج الغاز يمكن أن يعزز مرونة إمدادات الغاز وتكلفته المعقولة. وهناك أيضًا سبب بيئي يدعم زيادة الإنتاج المحلي، إذ يتميز الغاز الألماني ببصمة كربونية أقل بكثير مقارنة بالغاز الطبيعي المسال (LNG) المستورد عبر الناقلات. وتغطي ألمانيا حاليًا نحو 7 في المئة من استهلاكها من الغاز عبر الغاز الطبيعي المسال، ومن المتوقع أن يرتفع هذا المعدل بشكل كبير مع تشغيل محطات استيراد جديدة.
عند احتساب الانبعاثات الناتجة عن الإنتاج والنقل، فإن انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن الغاز الطبيعي المسال (LNG) على مدى 20 عامًا ستكون أعلى بنسبة 33 في المئة مقارنة بالفحم. جاء ذلك وفقًا لدراسة أجراها Robert Howarth، خبير البيئة الأمريكي من جامعة كورنيل. يضاف الى ذلك انه ولكي يُنقل الغاز بالسفن حول العالم، يجري تسييله في البلدان المنتجة في عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة عند درجات حرارة تصل إلى سالب 160 درجة مئوية. وفي بلدان الاستيراد يُعاد تحويل الغاز المسال إلى حالته الغازية مرة أخرى. وألمانيا تستورد كمية كبيرة من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، حيث يُستخرج الغاز هناك عبر التكسير الهيدروليكي (Fracking)، وهي عملية كثيفة استهلاك الطاقة أيضًا. كما أن السفن التي تنقل الغاز المسال ليست صديقة للمناخ بأي حال من الأحوال. ووفقًا لاتحاد الغاز والنفط والطاقة الجوفية الألماني (BVEG)، فإن إنتاج الغاز الطبيعي محليًا يؤدي إلى انبعاثات أقل بنسبة تصل إلى 30 في المئة مقارنة بواردات الغاز الطبيعي المسال. وبالنسبة لمشروع بحر الشمال، أعلنت شركة One-Dyas أنها ستستخدم الكهرباء المولدة من مزرعة رياح بحرية ألمانية لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن إنتاج الغاز إلى الحد الأدنى.
وعلى الرغم من موافقة الحكومة الاتحادية مبدئيًا على إنتاج الغاز الطبيعي المشترك في بحر الشمال. لكن الموافقات النهائية من المجلس الاتحادي والبرلمان الاتحادي بشأن هذا القرار المبدئي لاستخراج الموارد عبر الحدود لم تصدر بعد. لكن وبحسب وزارة الاقتصاد الاتحادية، فأن الموافقة على المشاريع الفردية من اختصاص الولايات الفيدرالية. وهذا يمنح ولاية ساكسونيا السفلى دورًا محوريًا، إذ إن 98 في المئة من إنتاج الغاز الطبيعي في ألمانيا يأتي من هذه الولاية.
وتبلغ احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة في ألمانيا حوالي 35 مليار متر مكعب. ورغم أن الإمكانيات الإجمالية أكبر بكثير، الا انها إما غير مجدية اقتصادياً للإنتاج أو لم يُبحث بعد بشكل كافٍ عن حقول إضافية. وقال الجيولوجي Stefan Lagade، من الهيئة الاتحادية للعلوم الجيولوجية والموارد الطبيعية (BGR): «ان احتياطيات الغاز في ألمانيا تكفي حاليًا لمدة عشر سنوات تقريبًا، إذا استمر الإنتاج على مستواه الحالي ولم تُفتح حقول جديدة أو توسع الحقول الحالية». لكن عملية توسيع الحقول الحالية مسألة شديدة الصعوبة وغير ممكنة. ويرجع ذلك بالأساس إلى أن توسيع إنتاج الغاز التقليدي بوسائل عادية في اليابسة الألمانية قد وصل إلى حدوده. أما الاحتياطيات بمليارات الأمتار المكعبة المتبقية فلا يمكن استخراجها إلا عن طريق التكسير الهيدروليكي (Fracking)، وهو أمر يُعتبر غير واقعي تمامًا في ألمانيا. ليس فقط لأنه سيستغرق سنوات، بل أيضًا لأن المعارضة الشعبية ستكون هائلة. ففي تقنية التكسير الهيدروليكي يُضخ الماء المخلوط بالمواد الكيميائية تحت ضغط عالٍ في طبقات الصخر الزيتي لتفتيتها واستخراج الغاز أو النفط. ويشير دعاة حماية البيئة باستمرار إلى المخاطر الكبيرة لهذه التقنية، بدءًا من تلويث المياه الجوفية، والاستهلاك الكبير للمياه، وصولًا إلى إطلاق كميات هائلة من غاز الميثان الضار بالمناخ. وقد حظرت ألمانيا التكسير الهيدروليكي منذ عام 2017م. ووفقًا لاتحاد BVEG، فإن استخدام التكسير الهيدروليكي يمكن أن يسمح بزيادة الإنتاج إلى ما يعادل 20 في المئة من احتياجات ألمانيا من الغاز الطبيعي في غضون سنوات قليلة. لكن من الناحية السياسية، يكاد يكون من المستحيل تنفيذ ذلك بسبب حجم المعارضة المتوقعة.