تحسّن مناخ الاعمال للشركات في ألمانيا خلال شهر أكتوبر، حيث ارتفع مؤشر ifo إلى 88.4 نقطة بعد أن كان 87.7 نقطة في سبتمبر. ويعود هذا التحسن إلى ارتفاع التوقعات الإيجابية لمستوى الاعمال للأشهر المقبلة، في حين قيمت الشركات الوضع الحالي لأعمالها بشكلٍ أقل تفاؤلاً. ومع ذلك، ما تزال الشركات تأمل في انتعاش النشاط الاقتصادي خلال العام المقبل.
في قطاع الصناعة، سجل المؤشر ارتفاعًا واضحًا حيث وصل في أكتوبر الى مستوى ( -11.7 نقطة) بعد ان كان عند مستوى ( -13.2 نقطة) المسجل في سبتمبر الماضي، ويأتي هذا الارتفاع بفضل تحسن التوقعات لمستوى الاعمال خلال الأشهر القادمة، رغم أن رضا الشركات عن أوضاع أعمالها في الوقت الحاضر تراجع بعض الشيء. كما توقف تراجع الطلبات الجديدة، وارتفعت نسبة استغلال الطاقات الإنتاجية بنقطة مئوية واحدة لتصل إلى 78.2 في المئة، لكنها لا تزال أدنى بكثير من متوسطها طويل الأجل البالغ 83.3 في المئة.
أما في قطاع الخدمات، فقد تحسّن مناخ الاعمال بشكل ملحوظ حيث سجل المؤشر في أكتوبر مستوى ( -0.1 نقطة) مرتفعاً من مستوى ( -3 نقطة) في الشهر الماضي، إذ أصبحت الشركات أقل تشاؤمًا بشأن اعمالها خلال الأشهر القادمة، وتم تعديل تقييم الشركات للوضع الحالي لأعمالها بشكل طفيف نحو الأفضل. وسجّل كل من قطاعي السياحة وخدمات تكنولوجيا المعلومات أداءً إيجابيًا مميزًا.
كذلك تحسن مناخ الاعمال في قطاع التجارة حيث سجل المؤشر في أكتوبر مستوى (-21.5 نقطة)، بينما كان عند مستوى ( -23 نقطة) في سبتمبر الماضي. ويعود هذا الارتفاع في المؤشر الى تحسن التوقعات للأعمال خلال الفترة القادمة وخاصة في التجارة بالجملة، بينما تراجع تقييم شركات القطاع للوضع الحالي لأعمالها قليلًا.
وعلى العكس من الاتجاه العام سجل مؤشر مناخ الاعمال في قطاع البناء انخفاضاً طفيفاً اذ تراجع الى مستوى ( -15 نقطة) فيما كان عند مستوى ( -14.8 نقطة) في الشهر السابق، ويرجع هذا الانخفاض الى تراجع التوقعات بمستوى الاعمال خلال الأشهر القادمة بالرغم من تقييم الشركات للوضع الراهن لأعمالها بشكل أفضل، ولا تزال قلة الطلبات الجديدة تمثل المشكلة الرئيسية التي تعيق هذا القّطاع.
في غضون ذلك رفعت الحكومة الألمانية من توقعاتها لمعدلات النمو في العام 2026م، الى نسبة 1.3 في المئة بعد كانت التوقعات الحكومية السابقة تشير الى نمو لا يتجاوز نسبة واحد في المئة، وأوضحت وزيرة الاقتصاد الاتحادية كاثرينا رايشه، ان هذا التفاؤل يعود بالدرجة الأولى إلى الإنفاق الحكومي المتزايد على البنية التحتية والدفاع.
كما تتوقع الحكومة الألمانية تحقيق نمو طفيف بنسبة 0.2 في المئة العام الحالي وهو ما يُعد تحولًا إيجابيًا بعد فترة من الركود. وبالنسبة لعام 2027، تشير تقديرات الحكومة إلى تحقيق نمو بنسبة 1.4 في المئة. وجاء في بيان وزارة الاقتصاد: “بعد عامين من تراجع الأداء الاقتصادي، تلوح في الأفق خلال خريف 2025 بوادر انتعاش اقتصادي طفيف عند مستوى منخفض.” وأضاف البيان أن النشاط الاقتصادي الداخلي من المتوقع أن يزداد مع بداية عام 2026م، مدعومًا بالإجراءات الاقتصادية والمالية التي تتخذها الحكومة الاتحادية. وأشار التقرير إلى أن الطلب المحلي سيكون المحرك الأساسي لهذا التعافي، وليس الصادرات كما جرت العادة في الاقتصاد الألماني. فبحسب الوزارة، فإن “استقرار الأسعار، وارتفاع الأجور بشكل واضح، وتخفيف الأعباء المالية عن الأسر ستؤدي إلى تعزيز الدخل الحقيقي المتاح للمواطنين خلال السنوات المقبلة.”
إلى جانب ذلك، سيساهم الإنفاق الحكومي الكبير في دعم النمو، لا سيما من خلال المشاريع المرتبطة بـ”الصندوق الخاص” والاستثمارات الدفاعية. واكدت رايشه أن “جزءًا كبيرًا من النمو في السنوات القادمة سيأتي من الإنفاق الحكومي المرتفع، لكن هذا التأثير لن يظهر بوضوح إلا إذا تم تنفيذ الاستثمارات بسرعة وفعالية.” وفي الوقت نفسه، شددت الوزيرة على الحاجة إلى مزيد من الإصلاحات الاقتصادية لضمان النمو المستدام على المدى الطويل. وقالت رايشه: “لتحقيق نمو اقتصادي طويل الأمد، علينا معالجة تراكم الإصلاحات المؤجلة، من خلال خفض تكاليف الطاقة، وتشجيع الاستثمارات الخاصة، ومعالجة العبء الضريبي المرتفع مقارنة بالدول الأخرى، وتقليص البيروقراطية، وفتح الأسواق، وتعزيز الابتكار.”
وتتوافق التقديرات الصادرة عن أبرز معاهد البحوث الاقتصادية الألمانية مع التقديرات الحكومية حيث تشير هذه التقديرات إلى أن الاقتصاد الألماني سيشهد في عام 2025م نموًا ضعيفًا لا يتجاوز 0.2 في المئة بعد عامين من الركود، وهو ما يعكس استمرار التباطؤ رغم بعض المؤشرات الإيجابية. لكن الخبراء يتوقعون أن يتحسن الوضع نسبيًا في عامي 2026م و2027م، حيث يُنتظر أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.3 في المئة و1.4 في المئة على التوالي. لكن الاقتصاديين يحذرون من أن هذا التعافي سيكون قصير الأمد ما لم تُنفذ إصلاحات هيكلية عميقة.
ففي تقرير الخريف المشترك الذي أصدرته مراكز الأبحاث الاقتصادية الكبرى ومنها المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW)، ومعهد إيفو في ميونخ (ifo)، ومعهد الاقتصاد العالمي في كيل (IfW)، ومعهد الاقتصاد الهيكلي في هاله (IWH)، ومعهد لايبنتز للأبحاث الاقتصادية في ايسن (RWI)، جاء التأكيد على أن ألمانيا تجاوزت القاع الاقتصادي لكنها لم تستعد عافيتها بالكامل بعد.
وصرحت الخبيرة Geraldine Dany-Knedlik، من المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية، إن الاقتصاد الألماني “ما يزال يقف على أرضية غير مستقرة”، مضيفة أن “الاقتصاد سيتعافى خلال العامين المقبلين بشكل ملموس، إلا أن استمرار نقاط الضعف الهيكلية سيجعل هذا الزخم مؤقتًا.” وتشير إلى أن الدعم الحكومي والإنفاق العام يخفيان مؤقتًا الضعف الحقيقي الكامن في النمو.
ويوضح التقرير أن السياسة المالية التوسعية التي تتبعها الحكومة والمتمثلة في صندوق استثماري خاص بقيمة 500 مليار يورو يُمول عبر الديون ويمتد على مدى 12 عامًا ستمنح الاقتصاد دفعة مؤقتة. هذا الصندوق مخصص للاستثمار في البنية التحتية المتداعية مثل الجسور وخطوط السكك الحديدية والمدارس، بالإضافة إلى التحول المناخي والرقمنة ودعم رياض الأطفال. ولضمان سرعة تنفيذ المشاريع، يجري العمل على تسريع إجراءات التخطيط والموافقة، وهو ما قد يؤدي إلى نشاط واضح في الاقتصاد المحلي خلال الفترة المقبلة.
لكن رغم هذه الجهود، يحذر التقرير من أن الآفاق المتوسطة والطويلة الأجل للنمو ما تزال مهددة بالتراجع. فالصادرات الألمانية، التي لطالما كانت ركيزة الاقتصاد، تعاني من تراجع الطلب الخارجي، كما أن ارتفاع تكاليف الطاقة والأجور مقارنة بالدول المنافسة، إضافة إلى نقص العمالة الماهرة وتراجع القدرة التنافسية، كلها عوامل تكبح النمو المستقبلي.
ويؤكد الخبراء أن الاستمرار في الاعتماد على الإنفاق الحكومي وحده لن يكفي لإنعاش الاقتصاد الألماني، بل يجب أن يرافقه تحرير الأسواق، وتقليص البيروقراطية، وتحسين بيئة الاستثمار. فبدون إصلاحات هيكلية جذرية، ستظل التقلبات الاقتصادية سمة الاقتصاد الألماني، حتى وإن أظهرت الأرقام مؤقتًا بعض التحسن.
سوق العمل: تراجع البطالة وزيادة كبيرة في الاعتراف بالمؤهلات الأجنبية
بحسب التقرير الشهري الذي تصدره وكالة العمل الاتحادية عن سوق العمل سجلت البطالة في شهر سبتمبر انخفاضًا بمقدار 70 ألف شخص مقارنة بالشهر السابق ليصل مجموع عدد العاطلين في ألمانيا إلى 2,955,000 شخص، وهو ما أدى إلى انخفاض معدل البطالة الشهري في شهر سبتمبر بمقدار 0.1 نقطة مئوية ليصل إلى 6.3 في المئة ومع ذلك، وبالمقارنة مع سبتمبر من العام الماضي، ارتفعت أعداد العاطلين بنحو 148 ألف شخص، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 0.3 نقطة مئوية في معدل البطالة السنوي.
وأكدت أندريا ناليس، رئيسة وكالة العمل الاتحادية (BA)، أن الانخفاض المسجل في معدل البطالة في سبتمبر يعود أساسًا لأسباب موسمية، مشيرة إلى أن سوق العمل ما يزال يفتقر إلى المحفزات اللازمة لتعزيز الانتعاش الاقتصادي.
أما في جانب العمل بدوام مختصر (Kurzarbeit)، فقد أظهرت البيانات انه تم تسجيل نحو 36 ألف موظف جديد في البرنامج خلال الفترة 1–24 سبتمبر. وبحسب أحدث البيانات فقد وصل مجموع المستفيدين من البرنامج حتى يوليو 2025م، 199,000 موظف، بانخفاض 4,000 عن الشهر السابق، لكنه أعلي بنحو 5,000 موظف عن يوليو من العام الماضي. وفيما يتعلق بعدد الوظائف الشاغرة المسجلة في وكالة العمل الاتحادية في سبتمبر فقد بلغ 630 ألف وظيفة بانخفاض بلغ 66 ألف وظيفة مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي.
في سياق متصل، يشهد سوق العمل الألماني تحولًا متسارعًا في السنوات الأخيرة مع ازدياد اعتماد البلاد على العمالة المهاجرة لسد النقص في الكفاءات. فقد أظهرت بيانات حديثة صادرة عن المكتب لإحصاء الاتحادي أن عدد المؤهلات المهنية الأجنبية المعترف بها في ألمانيا بلغ عام 2024م، نحو 79,100 شهادة، بزيادة بلغت 21 في المئة مقارنة بالعام السابق. ومنذ بدء تسجيل إجراءات الاعتراف الرسمي بالمؤهلات المهنية على المستوى الاتحادي والإقليمي عام 2016م، تضاعف العدد أكثر من ثلاث مرات، ما يعكس تزايد الحاجة إلى الكفاءات الأجنبية في مختلف القطاعات، لا سيما في مجال الرعاية الصحية.
وفي الوقت نفسه، سجل عدد طلبات الاعتراف قيد المعالجة رقماً قياسياً جديداً بلغ 95,500 طلب عام 2024م، أي أكثر من ضعف ما كان عليه في عام 2016م. وقد حُسمت 82,000 من هذه الطلبات خلال العام، وحصل 97 في المئة منها على اعتراف رسمي بالمؤهلات المكتسبة في الخارج، ما يدل على أن معظم المتقدمين يستوفون المعايير الألمانية للمزاولة المهنية.
ومن حيث الدول، تصدرت تركيا وأوكرانيا قائمة الدول التي شهدت أكبر زيادة في الاعتراف بالمؤهلات المهنية. فقد ارتفع عدد الاعترافات بشهادات القادمين من تركيا إلى 9,200 حالة، أي بزيادة 40 في المئة مقارنة بعام 2023م، بينما تضاعف عدد الاعترافات لمواطني أوكرانيا ليصل إلى 6,600 حالة. وجاءت تونس والهند وسوريا في المراتب التالية، في حين تراجعت أعداد الاعترافات الصادرة لمتقدمين من البوسنة والهرسك والفلبين مقارنة بالسنوات السابقة.
ويُلاحظ أن القطاع الطبي لا يزال يستحوذ على النصيب الأكبر من هذه الاعترافات؛ إذ بلغت نسبة المؤهلات المعترف بها في هذا المجال 41 في المئة من الإجمالي. واحتل التمريض المرتبة الأولى بـ 32,500 حالة، تلاها الأطباء بـ 11,000 اعتراف. وجاء بعدهم المهندسون (4,400 حالة) والمعلمون (2,800 حالة) وأخصائيو العلاج الطبيعي (2,200 حالة). كما أن 59 في المئة من هذه المؤهلات كانت تخص نساء، ما يشير إلى الدور المهم الذي تلعبه النساء المهاجرات في دعم قطاعات العمل الحيوية، خصوصاً في الرعاية والصحة.
من الناحية الاقتصادية، يرى الخبراء أن هذه الأرقام تُبرز مدى اعتماد ألمانيا المتزايد على الكفاءات الأجنبية لمواجهة النقص في سوق العمل. فوفقاً لتقديرات معهد الاقتصاد العالمي في كيل (IfW)، سيُحال ثلث القوى العاملة الألمانية إلى التقاعد خلال الخمسة عشر عاماً القادمة، ما يعني أن الأجيال الشابة لن تكون قادرة على تعويض هذا النقص العددي. ويُحذر الخبير الاقتصادي ستيفان كوثس من أن استمرار هذا الاتجاه سيضع أنظمة الضمان الاجتماعي تحت ضغط متزايد، إذ سيتعين على عدد أقل من العاملين تمويل معاشات ورعاية عدد متزايد من المتقاعدين. ويضيف كوثس أن غياب الإصلاحات البنيوية سيؤدي إلى ارتفاع نسبة الضرائب والاقتطاعات على العاملين، ما قد يجعل ألمانيا أقل جذباً للاستثمارات والعمالة المؤهلة. من هنا، يُنظر إلى الهجرة المنظمة ليس فقط كحل مؤقت لسد النقص، بل كضرورة استراتيجية لضمان استدامة النظام الاقتصادي والاجتماعي الألماني.
أثار اعتماد ألمانيا على استيراد العناصر الأرضية النادرة على الاقتصاد
يزداد اعتماد الصناعة الألمانية بشكل كبير على العناصر الأرضية النادرة، والتي لا يمكن استمرار الإنتاج بدونها. وتتركز الإشكالية هنا في ان الشركات الألمانية تستورد معظم احتياجاتها من هذه المواد من الصين. واظهرت دراسة حديثة لشركة “ماكينزي” للاستشارات أن أي اضطراب في هذه الإمدادات قد يهدد مئات الآلاف من الوظائف ويؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الألماني. ففي ألمانيا يعمل نحو مليون شخص في قطاعات تعتمد مباشرة على هذه المواد، مثل صناعة السيارات، وتقنيات الطاقة، والطيران والفضاء، وتسهم هذه الصناعات بنحو 150 مليار يورو سنويًا في الناتج المحلي الإجمالي. بالإضافة الى ذلك يعتمد نحو ثلاثة ملايين موظف يعملون في قطاعات صناعية تعتمد بشكل غير مباشر على هذه المواد الأرضية النادرة، ما يرفع القيمة الاقتصادية الإجمالية بنحو 220 مليار يورو أضافي. وبناء على هذا، تحذر الدراسة من أن توقف الصين، المورد الأكبر عالميًا للمعادن والعناصر الأرضية النادرة، عن التصدير قد يهدد أربعة ملايين وظيفة في ألمانيا وحدها ويعرض 370 مليار يورو من القيمة المضافة للخطر، أي ما يساوي نحو 9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويؤكد الخبراء أن هذه الأرقام واقعية وتعكس عمق الاعتماد الألماني على المواد والمعادن النادرة.
وتُظهر نتائج الدراسة أن الاقتصاد الألماني والأوروبي لا يزال ضعيفًا أمام الاعتماد الكبير على المواد الخام الحيوية، مثل العناصر الأرضية النادرة، والليثيوم، والكوبالت، والفوسفور.
وقد صنّفت المفوضية الأوروبية نحو 34 مادة على أنها مواد خام حرجة، أي مواد تتميز بـ أهمية اقتصادية كبيرة، لكن في الوقت نفسه تواجه مخاطر عالية في انقطاع سلاسل توريدها، ولا تتوافر لها بدائل اقتصادية مناسبة. وتشمل هذه القائمة جميع العناصر الأرضية النادرة.
وتسيطر الصين على سلسلة القيمة الكاملة لهذه المواد، من التعدين إلى المعالجة والتصدير، وتتبنى سياسة متشددة في تصديرها. ومع زيادة الطلب العالمي نتيجة توسع الصناعات عالية التقنية والدفاع، تقلص بكين صادراتها تدريجيًا وتفرض قيودًا إضافية. ففي أكتوبر 2025م، شددت الصين القيود على تصدير التقنيات الأساسية لمعالجة هذه المواد، وأعلنت وزارة التجارة في بكين أن أي تصدير لتكنولوجيا التعدين أو المعالجة سيحتاج إلى موافقة رسمية مسبقة، ما يزيد من صعوبة حصول الدول الأخرى على هذه الموارد. ويشير Christian Hoffmann من شركة “ماكينزي” إلى أن التحدي لم يعد مرتبطًا بتقلب الأسعار فقط، بل بقدرة الصناعة على الاستمرار في الإنتاج. بحيث أصبحت مسألة الإمداد قضية أمن صناعي واستقرار استراتيجي، وأي انقطاع فعلي في المواد الخام الحرجة قد يسبب أضرارًا جسيمة ويعطل قطاعات كاملة من الاقتصاد الألماني.
وكشفت الأحداث الأخيرة هشاشة سلاسل التوريد العالمية، وهو ما برز بوضوح في أزمة الجرمانيوم عندما أعلنت الصين نهاية العام الماضي وقف تصديره إلى الولايات المتحدة.
ويُعد الجرمانيوم عنصرًا أساسيًا في صناعة الألياف الضوئية وأشباه الموصلات والمعدات العسكرية. وقد تراجعت صادراته إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 60 في المئة خلال النصف الأول من عام 2025م، مما سبب صدمة كبيرة للشركات الأوروبية والألمانية وأدى إلى اضطرابات في الإنتاج، وصلت في بعض القطاعات، مثل صناعة السيارات، إلى توقف مؤقت في خطوط التصنيع.
ويُظهر هذا الوضع الاعتماد الكبير على الصين وضعف الجهود الألمانية السابقة في تنويع مصادر التوريد. فعندما يتحسن السوق مؤقتًا، تتراجع المبادرات لبناء قدرات محلية، مما يؤكد الحاجة إلى خطط طويلة الأمد تضمن أمن الإمدادات. حيث يُعد تأمين المواد الخام عنصرًا أساسيًا في التخطيط الصناعي لأنه يضمن الاستقرار الاقتصادي والإنتاجي على المدى الطويل. وفي هذا السياق، أطلقت الحكومة الألمانية السابقة “صندوق المواد الخام” بهدف تقليل الاعتماد على الصين وتشجيع الشركات على استكشاف مصادر بديلة في دول مستقرة سياسيًا. يتولى الصندوق مشاركة الدولة في المخاطر المالية لتشجيع الاستثمار في مناجم جديدة ومشاريع خارجية، كما يساعد على تعويض الفارق في التكاليف بين الإنتاج المحلي أو الشراكات البعيدة وبين الاستيراد الأرخص من الصين. ورغم أن المشاريع ما تزال قيد الدراسة، فإن الصندوق يُعد خطوة أولى نحو استقلالية استراتيجية في مجال المواد الخام، لكنه يحتاج إلى دعم أوسع وتعاون وثيق بين القطاعات الصناعية والمالية والبحثية لتحقيق أهدافه.
يتطلب التحول المنشود تعاونًا واسعًا بين شركات التعدين والصناعة والمصارف والمؤسسات الأكاديمية، مع إعادة تنظيم سلسلة القيمة بدءًا من استخراج المواد الخام مرورًا بمعالجتها وتخزينها. ويمكن للاتحادات المشتركة وبيوت التجارة المتخصصة أن تسهم في تعزيز القدرات الوطنية وتقوية موقع المشترين الألمان في السوق العالمية، مع الالتزام بقوانين المنافسة. لقد أصبح تنويع مصادر التوريد ضرورة حيوية لبقاء الصناعة الألمانية في ظل عالم تزداد فيه التوترات الجيوسياسية، حيث يُستخدم التحكم بالموارد أحيانًا كأداة للضغط الاقتصادي.
وتُعد التجربة اليابانية نموذجًا يحتذى به في هذا المجال، إذ نجحت اليابان في تقليل اعتمادها على المواد الخام الحساسة من خلال أربع ركائز رئيسية: تنويع مصادر الاستيراد، تعزيز إعادة التدوير، تقليل استهلاك المواد، وتشجيع الابتكار لتطوير بدائل. وقد تحقق ذلك بفضل شراكة قوية بين الدولة والقطاع الخاص، إلى جانب استثمارات مباشرة في مشاريع التعدين الخارجية وإنشاء مخزونات وطنية استراتيجية.
إن أزمة الجرمانيوم لم تكن مجرد اضطراب مؤقت في سلاسل التوريد، بل جرس إنذار استراتيجي يدعو ألمانيا وأوروبا إلى إعادة التفكير في مفهوم السيادة الاقتصادية. فالقوة الصناعية التي بُنيت على الاستقرار العالمي تواجه اليوم واقعًا جديدًا يتطلب تنويع الشراكات الاقتصادية، تعزيز الاكتفاء الذاتي النسبي، والاستثمار في الابتكار. وإذا تمكنت ألمانيا من تحويل هذه الأزمة إلى فرصة عبر تبني سياسة طويلة الأمد لتأمين المواد الخام، فقد تصبح نقطة انطلاق لبناء نموذج اقتصادي أكثر مرونة واستقلالية في المستقبل.
المهاجرون والابتكار في ألمانيا: واحد من كل سبع اختراعات بأيدٍ مهاجرة
أظهرت دراسة جديدة صادرة عن معهد الاقتصاد الألماني (IW) إلى أن واحدة من كل سبع براءات اختراع في ألمانيا تُسجَّل اليوم على يد أشخاص من أصول مهاجرة. هذا التحول اللافت يكشف الدور المتزايد الذي يلعبه المهاجرون في دفع عجلة الابتكار داخل واحدة من أكثر الاقتصادات الصناعية تقدمًا في العالم، ويعكس في الوقت نفسه عمق التغيرات السكانية والعلمية التي شهدتها ألمانيا خلال العقدين الأخيرين. فبحسب الدراسة، بلغت نسبة براءات الاختراع المسجلة باسم أشخاص من خلفيات مهاجرة نحو 14 في المئة في عام 2022م، بعدما كانت لا تتجاوز 5 في المئة عام 2000م. أي أن مساهمة المهاجرين في الابتكار العلمي والتقني تضاعفت تقريبًا ثلاث مرات خلال عقدين، ما يجعلهم عنصرًا حيويًا متزايد الأهمية للاقتصاد الألماني. ويؤكد باحثو المعهد أن “المهاجرين أصبحوا ركيزة أساسية في منظومة الابتكار الألمانية، وأن الاقتصاد الألماني بات يعتمد بدرجة متنامية على مهاراتهم العلمية والتقنية”.
وكشفت الدراسة، التي اعتمدت على تتبع الأسماء الأولى للمخترعين منذ عام 2000م، وتصنيفها إلى 24 نطاقًا لغويًا، عن أن المساهمين الأكبر في براءات الاختراع من أصول أجنبية ينحدرون من شرق وجنوب شرق أوروبا، حيث يشكل هؤلاء نحو 3 في المئة من إجمالي براءات الاختراع المسجلة في ألمانيا. ويأتي بعدهم المخترعون من اللغات الرومانية واللاتينية، أي من جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية، في المرتبة الثانية. أما المرتبة الثالثة فاحتلها الناطقون بالعربية والأتراك بنسبة تقارب 2 في المئة، وهي نسبة تضاعفت أربع مرات منذ مطلع الألفية. لكن النمو الأكثر لفتًا للنظر سُجّل بين المخترعين من أصل هندي، إذ ارتفعت مساهماتهم في تسجيل براءات الاختراع اثنتي عشرة مرة منذ عام 2000م، لتبلغ اليوم 1.2 في المئة، مما يعكس صعود الهند كمصدر رئيسي للعقول المبتكرة عالميًا.
وتؤكد الدراسة أن تجربة الهند تقدم نموذجًا ملهمًا لألمانيا في كيفية استقطاب الكفاءات العلمية من دول ذات نظام تعليمي متطور وشباب متعلم طموح. لكنها تشدد أيضًا على أن مجرد الترويج أو الإعلانات لجذب العلماء لا تكفي، بل يجب تبني إجراءات أسرع وأكثر مرونة في منح تأشيرات الدخول والاعتراف بالمؤهلات المهنية. وتقول الباحثة ألكسندرا كوبلر من معهد IW إن “ألمانيا، مثلها مثل بقية الدول الصناعية، تعتمد بشكل متزايد على الهجرة المؤهلة”، مضيفة أن “السباق العالمي نحو استقطاب العقول المبدعة يتطلب أنظمة بيروقراطية مرنة وفعالة”. كما تؤكد أن مناخ الانفتاح الثقافي يعد شرطًا أساسيًا لجعل ألمانيا بيئة جاذبة للخبرات الدولية، لأن الانغلاق الاجتماعي أو الثقافي من شأنه أن يضعف القدرة على استقطاب المواهب العالمية.
من ناحية أخرى، تحتل ألمانيا اليوم المرتبة الثانية عالميًا بعد الولايات المتحدة في عدد براءات الاختراع، إذ سجّل الباحثون والعلماء الألمان نحو 25 ألف براءة اختراع خلال عام 2024م، بحسب بيانات المكتب الأوروبي للبراءات في ميونيخ. ويعزو الخبراء هذا التفوق إلى التقاليد العريقة في البحث والتطوير، لكنه في الوقت ذاته يعتمد على تنوع القوى العاملة العلمية، إذ يشكّل المهاجرون نسبة متزايدة من الباحثين في الجامعات ومراكز الابتكار والشركات الكبرى.
ومن النتائج اللافتة في الدراسة أن نسبة النساء المخترعات بين المهاجرين أعلى بكثير مما هي عليه بين الألمان الأصليين. فبينما لا تتجاوز نسبة المخترعات الألمانيات نحو 5 إلى 6 في المئة من إجمالي المبتكرين، تبلغ النسبة بين المهاجرات قرابة 9 في المئة، أي تقارب الضعف. وتظهر المعدلات الأعلى خصوصًا في الأوساط القادمة من أوروبا الشرقية مثل التشيك (13.6 في المئة)، بولندا (13.2 في المئة)، ورومانيا (12.7 في المئة)، وأيضًا في القادمين من كوريا واسبانيا والبرتغال (بنحو 11 في المئة).
ويُرجع الباحثون هذه الظاهرة إلى ما يُعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ مفارقة المساواة بين الجنسين (Gender-Equality Paradox)، التي تشير إلى أن النساء في الدول الأكثر رفاهًا ومساواة يمِلن غالبًا إلى الابتعاد عن التخصصات العلمية والتقنية، بينما تسعى نساء الدول الأقل تطورًا أو ذات المساواة المحدودة إلى دخول مجالات العلوم والهندسة باعتبارها وسيلة لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي. وهكذا، فإن المهاجرات القادمات من هذه الدول يجدن في الدراسة والعمل في مجالات العلوم والتكنولوجيا فرصة حقيقية للارتقاء الاجتماعي والمادي. وتظهر البيانات العامة أيضًا أن نسبة النساء بين جميع المخترعين في ألمانيا ارتفعت من 3.7 في المئة عام 2000م، إلى 6 في المئة مؤخرًا، وهو تطور يعكس تأثير الهجرة في جعل الابتكار الألماني أكثر تنوعًا وشمولًا.
كما كشفت هذه الدراسة، في جوهرها، عن تحول عميق في المشهد العلمي والابتكاري الألماني. فالمهاجرون لم يعودوا مجرد عمالة مساندة في الصناعات التقليدية، بل أصبحوا اليوم من محركات الابتكار الأساسية في الاقتصاد الألماني. إن مساهماتهم في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والتقنيات البيئية والطبية، تمنح ألمانيا ميزة تنافسية عالمية يصعب الحفاظ عليها دون انفتاح على الكفاءات الأجنبية.
الحلول المطروحة للشركات الألمانية لمواجهة الرسوم الأمريكية الجديدة
تمر العلاقات الاقتصادية بين ألمانيا والولايات المتحدة بمرحلة معقدة بسبب السياسات التجارية الحمائية التي تنتهجها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي شملت فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات. هذه الإجراءات لم تؤثر فقط على الشركات الصناعية الكبرى في ألمانيا، بل طالت أيضًا الشركات المتوسطة، التي تشكل أساس الاقتصاد الألماني.
وعلى الرغم من ان العديد من الشركات الألمانية كانت قد تحسبت لعودة ترامب الى الرئاسة ودرست خياراتها بشأن الاستثمار في الولايات المتحدة، سواء عبر توسيع إنتاجها أو شراء مصانع هناك، لتجنب فرض رسوم جمركية جديدة إذ ان حوالي 6000 شركة ألمانية تمتلك حالياً فروعًا في الولايات المتحدة، وتشغّل نحو 920 ألف موظف، وفقًا لبيانات غرفة التجارة الألمانية الأمريكية. ومع ذلك، لا توجد طريقة محددة تتبعها هذه الشركات للتعامل مع الرسوم الجمركية الامريكية، حيث تختلف استجابات الشركات الألمانية بين الحذر، وإعادة ترتيب استراتيجياتها، ومحاولات التكيف مع السياسات الاقتصادية الأمريكية الجديدة.
وقد اظهر مسح اجراه معهد Allensbach، لنحو 169 شركة صناعية ألمانية أجري بتكليف من شركة الاستشارات الاقتصادية FTI-Andersch، أن حوالي 42 في المئة من الشركات الصناعية الألمانية تعاني بشدة من تصاعد النزعات الحمائية حول العالم، خصوصًا في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن ثلث هذه الشركات فقط اتخذ خطوات ملموسة لمواجهة تلك التحديات.
ومن بين الشركات التي قررت أتخاذ إجراءات عملية، لجأت نحو 47 في المئة منها إلى إنشاء خطوط إنتاج مطابقة في دول أخرى لتجنب تأثير الرسوم الأمريكية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك شركة ميلي (Miele) الألمانية للأجهزة المنزلية، التي بدأت منذ عام 2023م، البحث عن موقع إنتاج في الولايات المتحدة، وأقامت في عام 2024م، مصنعًا في ولاية ألاباما لإنتاج الأفران الكبيرة المخصصة للسوق الأمريكية. هذا التوجه نحو “التموضع داخل السوق الأمريكية” يبدو منطقيًا من حيث الاستراتيجية، لكنه مكلف جدًا ويستحيل على الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم تحمله بسهولة. فوفقًا ل Gregor Greinert، رئيس مجلس إدارة شركة Röchling، المتخصصة في الصناعات البلاستيكية، فإن إنشاء مصانع جديدة في الولايات المتحدة يواجه عقبة أخرى إلى جانب التكلفة، وهي نقص الكوادر الماهرة، مما يجعل خيار الاستحواذ على شركات قائمة في السوق الأمريكية أكثر واقعية من خيار البدء من الصفر.
لكن رغم هذه الخطوات، يبقى التردد سمة مشتركة بين العديد من الشركات الألمانية. فعدم استقرار السياسات التجارية الأمريكية، وتقلب قرارات البيت الأبيض، يجعلان أي استثمار طويل الأمد في السوق الأمريكية مخاطرة غير مضمونة العواقب. ولهذا السبب، تُفضل كثير من الشركات إعادة توجيه صادراتها نحو أسواق بديلة أقل عرضة للقيود التجارية. وفي هذا المجال تشير دراسة Allensbach إلى أن نحو نصف الشركات الألمانية تقريبًا تركز اليوم على دخول أسواق جديدة في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وهي مناطق ما تزال بعيدة عن النزاعات التجارية الكبرى. لكن هذا التوجه يتطلب وقتًا طويلاً لبناء شبكات توزيع مستقرة وشراكات موثوقة، وهو ما يعني أن الحلول السريعة تظل محدودة.
وترى الدراسة أن 39 في المئة من الشركات الألمانية أختارت التركيز على تطوير منتجات لا تخضع للرسوم الأمريكية أو تتأثر بها بدرجة أقل، عبر تعديل سلسلة التوريد أو مكونات الإنتاج. أما 20 في المئة من الشركات فقد اتخذت خطوة أكثر جرأة، بسحب استثماراتها من الأسواق المتأثرة بالرسوم الجمركية وتوجيهها نحو مناطق أكثر استقرارًا.
كل هذه التحركات تكشف أن الشركات الألمانية تسعى إلى حماية مصالحها بوسائل مختلفة، لكنها تعمل في بيئة اقتصادية تتغير بسرعة، حيث تتزايد النزعة القومية الاقتصادية في العالم، وتتراجع حرية التجارة التي كانت يومًا أحد أسس النظام الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. إن التجربة الحالية تضع ألمانيا أمام اختبار مزدوج: من جهة، عليها حماية صناعتها الوطنية من آثار الحمائية الأمريكية، ومن جهة أخرى، عليها ألا تقع في فخ الرد بالمثل بشكل يضر بمكانتها كداعم رئيسي للتجارة الحرة. وبين هذا وذاك، يظل القطاع الصناعي الألماني، وخاصة الشركات المتوسطة، في مواجهة مفتوحة مع واقع اقتصادي جديد، يفرض عليها إعادة التفكير في نماذجها الإنتاجية وسلاسل توريدها، وربما في مفهوم العولمة ذاته كما عرفته خلال العقود الماضية.