تحسّن مناخ الاعمال للشركات الألمانية خلال شهر يونيو ifo ليصل إلى مستوى 88.4 نقطة، بعد أن كان عند مستوى 87.5 نقطة في شهر مايو. ويعود هذا الارتفاع الى تحسّن توقعات الشركات لمستقبل اعمالها بشكل خاص، كما كان تقييم الشركات لمستوى اعمالها الحالي على نحوٍ أفضل قليلًا. وتشير هذه النتائج إلى أن الاقتصاد الألماني بدأ يتعافى بشكل تدريجي.
في قطاع الصناعة، تحسّن مناخ الأعمال بشكل طفيف حيث سجل المؤشر في شهر يونيو مستوى ( -13.7 نقطة) بعد ان كان عند مستوى ( -13.8 نقطة) في مايو الماضي. فعلى الرغم من أن الشركات أصبحت أكثر تفاؤلًا بشكل ملحوظ بشأن مستوى اعمالها في الأشهر المقبلة، فإن تقييمها للوضع الحالي للأعمال كان أقل إيجابية. ولا تزال الشركات غير راضية إلى حد كبير عن مستوى الطلبيات لديها.
أما في قطاع الخدمات، فقد تحسّن المؤشر بشكل واضح حيث سجل في يونيو مستوى 3.8 نقطة مرتفعاً من مستوى ( -0.4 نقطة)، المسجل في الشهر الماضي. وقد قيّمت الشركات وضعها الحالي بشكل أكثر إيجابية قليلًا، كما رفعت من توقعاتها المستقبلية لمستوى اعمالها بشكل ملحوظ، لا سيما بين مزودي الخدمات الموجهة نحو قطاع الأعمال.
وشهد مؤشر مناخ الاعمال في قطاع التجارة، تحسّناً أيضًا حيث سجل مستوى ( -19.2 نقطة) في يونو بعد ان كان عند مستوى (-20.3 نقطة) في مايو. وجاء هذا التحسن مع ارتفاع مستوى الرضا عن أداء الأعمال الحاضرة وتراجع درجة التشاؤم بشأن المستقبل. ومع ذلك، فقد كان هذا التحسن مدفوعًا بشكل أساسي من قبل قطاع الجملة، بينما تراجع المؤشر بشكل طفيف في قطاع التجزئة، في دلالة على استمرار حالة الحذر لدى المستهلكين وضعف القوة الشرائية في بعض الأسواق.
واستمر الاتجاه الإيجابي في مناخ الاعمال في قطاع البناء، حيث ارتفع المؤشر في شهر يونيو الى مستوى ( -15.1 نقطة) بعد ان كان عند مستوى ( -18.1 نقطة) في الشهر الماضي، ويعتبر هذا أعلى مستوى للمؤشر منذ فبراير 2022م، ويعود هذا الارتفاع الى تحسن التوقعات بمستوى الاعمال المستقبلية غير أن هذا التفاؤل لا يزال مشوبًا بشيء من التحفظ، في ظل تراجع الدعم الحكومي وتحديات التمويل. كما بقي تقييم الشركات لمستوى الاعمال الحالي دون تغيير يُذكر، ما يعكس استقرارًا محدودًا في النشاط الفعلي.
وفيما يتعلق بالنمو الاقتصادي، تشير توقعات اقتصادية جديدة إلى أن الاقتصاد الألماني قد يشهد تعافيًا واضحًا في عام 2026م. فقد رفعت أبرز المعاهد الاقتصادية تقديراتها للنمو، في مؤشر على خروج محتمل من الأزمة التي استمرت ثلاث سنوات، رغم استمرار وجود بعض المخاطر، خصوصًا على صعيد السياسة التجارية الأمريكية. ووفقًا للمعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية التابع لجامعة ميونخ (ifo)، من المتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بنسبة 1.5 في المئة في عام 2026م، وهي زيادة تقارب ضعف التوقعات السابقة التي قدرت النمو بنسبة 0.8 في المئة. كما عدّل المعهد توقعاته للنمو لهذا العام بشكل طفيف من 0.2 في المئة إلى 0.3 في المئة.
من جانبه، رفع معهد الاقتصاد العالمي في كيل (IfW)، توقعاته للنمو في العام المقبل لتصل إلى 1.6 في المئة. أما بالنسبة لعام 2025م، فقد عدّل المعهد تقديراته من نمو صفري إلى 0.3 في المئة. وأوضح Stefan Kooths، رئيس قسم التوقعات الاقتصادية في المعهد، أن المؤشرات المبكرة تدعم هذا التقدير، مشيرًا إلى أن قطاع الصناعة يبدو وكأنه قد وصل إلى أدنى مستوى من التراجع بعد عامين من الانكماش، وانه سيبدأ في استعادة مستوى إنتاجه السابق وان استغرق ذلك بعض الوقت.
كما يرى عدد من المعاهد الاقتصادية الأخرى أيضًا مؤشرات على تعافي الاقتصاد. فقد أشار معهد البحوث الاقتصادية في هاله (IWH)، إلى “مؤشرات متزايدة على انتعاش اقتصادي”، بحسب نائب رئيس المعهد، Oliver Holtemöller، الذي أشار إلى أن الناتج المحلي الإجمالي ارتفع بنسبة 0.4 في المئة في الربع الأول من العام، كما بدأ الاستهلاك الخاص بالتعافي مجددًا، بدعم من ارتفاع الطلب الأمريكي على المنتجات الألمانية. ويعود هذا الطلب، وفقًا للمعهد، إلى قيام المستوردين في الولايات المتحدة بتسريع طلبياتهم قبيل تطبيق زيادات جمركية مرتقبة. ونتيجة لذلك، توقّع معهد IWH أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي نموًا بنسبة 0.4 في المئة خلال عام 2025م، مقارنة بتوقعات سابقة لم تتجاوز 0.1 في المئة. أما في عام 2026م، فيُتوقع نمو الاقتصاد بنسبة 1.1 في المئة.
بدوره، يتوقع معهد البحوث الاقتصادية في إيسن (RWI)، نموًا اقتصاديًا بنسبة 0.3 في المئة هذا العام، بعدما كانت توقعاته في الربيع تشير إلى انكماش بسيط. وفي عام 2026م، يُرجّح المعهد أن يرتفع النمو إلى 1.5 في المئة. أما منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) فقد توقعت أن يسجل الاقتصاد الألماني نموًا بنسبة 0.4 في المئة هذا العام، يرتفع إلى 1.2 في المئة في عام 2026م، مشددة على أن إنهاء حالة الركود الاقتصادي يتطلب إصلاحات هيكلية عميقة، من بينها مراجعة نظام الضرائب.
ويعزو خبراء الاقتصاد هذا التفاؤل جزئيًا إلى حزمة التحفيز الاقتصادي التي أعلنت عنها الحكومة الألمانية الجديدة. ويتوقع معهد ifo أن يبلغ الأثر الاقتصادي للإجراءات المالية، بما فيها زيادة الإنفاق، وتخفيض الضرائب، والاستثمار، نحو عشرة مليارات يورو خلال هذا العام، و57 مليار يورو في عام 2026م. كما تستند هذه التوقعات الإيجابية جزئيًا إلى افتراض التوصل إلى حل للخلاف التجاري القائم بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وأيضا وبحسب Timo Wollmershäuser، رئيس قسم الاقتصاد في معهد ifo، إن هناك تفاؤلاً في أوساط الشركات الألمانية بأن الجمود في السياسات الاقتصادية سيتلاشى مع الحكومة الاتحادية الجديدة، وأنه يمكن التوصل إلى تسوية تجارية مع واشنطن.
وعلى الرغم من هذا التفاؤل النسبي، تُجمع معظم التوقعات على أن طريق التعافي ما يزال مرهونًا بعدة عوامل خارجية وداخلية، أبرزها مسار النزاع التجاري مع الولايات المتحدة، واستعادة التنافسية الصناعية. إذ تحذر بعض المعاهد من استمرار الغموض المحيط بالسياسة التجارية الأمريكية. فوفقًا لتقديرات معهد ifo، فإن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد تؤدي إلى تقليص النمو الاقتصادي الألماني بنسبة 0.1 نقطة مئوية في عام 2025م، و0.3 نقطة مئوية في عام 2026م. وتشير التقديرات إلى أن تسوية النزاع قد تعزز النمو، بينما قد يؤدي أي تصعيد جديد إلى خطر حدوث ركود اقتصادي مجددًا. يُذكر أن الاقتصاد الألماني شهد انكماشًا طفيفًا خلال عامي 2023م و2024م، مما جعل من آفاق النمو للعام 2026م، فرصة محتملة للخروج من أطول أزمة اقتصادية تمر بها البلاد في السنوات الأخيرة.
الحكومة الألمانية تقرّ ميزانية 2025م: استثمارات قياسية وسط تصاعد الدين العام
بعد أقل من شهرين على تشكيلها، اعتمدت الحكومة الألمانية الجديدة أول موازنة اتحادية لها تحت شعار “الاستثمار، الإصلاح، والتوحيد”، معلنة بذلك بداية مرحلة جديدة من السياسات المالية التي تبتعد عن عقيدة “الصفر الأسود”، أي الميزانية الخالية من الديون، لمواجهة البنية التحتية المتآكلة والتحديات الاقتصادية المتفاقمة.
وبلغ إجمالي الإنفاق في ميزانية 2025م، 503 مليار يورو، بزيادة قدرها 29 مليار يورو عن العام السابق، وهي أعلى ميزانية في تاريخ ألمانيا الحديث. وخصصت الحكومة 115 مليار يورو للاستثمار، وهو ايضاً رقم قياسي، يشمل تحديث المدارس والمستشفيات ورياض الأطفال، إلى جانب مشاريع الطاقة والنقل والرقمنة. كما حصلت الولايات والبلديات على دعم إضافي بلغ 8 مليارات يورو. وزير المالية لارس كلينغبايل وصف هذه الميزانية بأنها “تحوّل سياسي جذري”، مؤكدًا أن الظروف الاقتصادية والبنية التحتية المتدهورة تفرض تجاوز مبدأ عدم الاستدانة: “إذا كانت الجسور تنهار، والمدارس تتداعى، والجيش مهمل، فلا يمكن اعتبار الصفر الأسود مبدأ مقدسًا”.
وتتضمن الميزانية ديون جديدة تبلغ 143.1 مليار يورو لعام 2025م وحده، ضمن خطة أشمل تتراكم فيها الديون إلى 850 مليار يورو حتى عام 2029م. ويأتي هذا التوسع في الاقتراض رغم قانون “كبح الديون” المعمول به، والذي يحدد سقفًا صارمًا لمستوى الدين المسموح به سنويًا. حيث تُستثنى معظم نفقات الدفاع من هذا السقف، كما تسمح التعديلات الدستورية الأخيرة بإنفاق 500 مليار يورو إضافية على مدى 12 عامًا في مجالات البنية التحتية وحماية المناخ، ضمن صناديق خاصة خارج الميزانية الاتحادية المباشرة.
وقد تم تخصيص 95 مليار يورو للدفاع في ميزانية العام 2025م، والذي يتضمن أيضا الدعم العسكري لأوكرانيا، وهذا المبلغ يعادل 2.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يتماشى مع متطلبات حلف الناتو. ومن المتوقع أن ترتفع هذه النفقات إلى 162 مليار يورو بحلول عام 2029م، أي 3.5 في المئة من الناتج المحلي، لتصل إلى ما يُعرف بـهدف الـ 5 في المئة الذي يشمل الإنفاق الأمني والبنية التحتية ذات الصلة.
ومع هذا الانفاق غير المسبوق على الاستثمار وتحديث البنية التحتية وبناء القدرات العسكرية الا ان العديد من التحديات ترافق الميزانية الاتحادية ومن أبرزها عب الفوائد على الديون. إذ من المتوقع أن تبلغ تكاليف الفائدة في عام 2025م نحو 30.2 مليار يورو، على أن ترتفع تدريجيًا إلى 62 مليار يورو بحلول 2029م، أي ما يعادل أكثر من 10 في المئة من الإنفاق العام. وتسبب هذه النفقات ضغوطًا إضافية على قدرة الحكومة على الإنفاق في مجالات أخرى.
ورغم النبرة المتفائلة للحكومة، تُظهر وثيقة الميزانية الرسمية المرسلة إلى الوزارات عجوزات مالية مقلقة للفترة من 2027م إلى 2029م، تبلغ في مجموعها 144 مليار يورو، موزعة على الشكل التالي: 22مليار يورو في عام 2027م، 56مليارًا في 2028م، 66 مليارًا في 2029م. هذه العجوزات، التي لا تغطيها حاليًا إيرادات مقابلة، تهدد بتقويض الاستقرار لمالية الدولة. ويعتمد وزير المالية في تقديراته على نمو اقتصادي سنوي بنسبة 1 في المئة حتى 2029م، لسد هذه العجوزات المتوقعة، إذ ستؤدي هذه النسبة من النمو إلى زيادة الإيرادات الضريبية وتقليل الاعتماد على المساعدات الاجتماعية. إلا أن هذا النمو لا يزال افتراضيًا وغير مضمون في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية، والتوترات الجيوسياسية، وتباطؤ الإنتاج الصناعي.
في مواجهة هذا الواقع، تعتزم الحكومة دعوة لجنة خبراء لمراجعة المادة الخاصة بكابح الديون، وربما تغييرها عبر تعديل دستوري. إلا أن هذا التعديل يتطلب موافقة ثلثي البرلمان، وهو ما يستدعي توافقًا سياسيًا واسعًا بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الاتحاد المسيحي، حزب الخضر، حزب اليسار، وأحزاب أخرى. وحتى اللحظة، لا توجد ضمانات للتوصل إلى اتفاق قبل نهاية 2026م، وهو الموعد الذي يجب فيه تقديم الخطة المالية للعام 2027م.
وللتغلب على القيود المفروضة على الميزانية الاتحادية، لجأت وزارة المالية إلى نقل العديد من المشاريع الاستثمارية إلى صناديق خاصة. فعلى سبيل المثال، تم تخصيص 93 مليار يورو لصيانة وتحديث السكك الحديدية والجسور والطرق السريعة ضمن صندوق جديد مستقل عن وزارة النقل. ويقول وزير النقل باتريك شنايدر: “نحن ننهي حالة التراكم في أعمال الصيانة”. ومن المتوقع أن تصل استثمارات البنية التحتية للنقل إلى 166 مليار يورو خلال فترة الحكومة الاتحادية الحالية.
بين الحماسة الحكومية لتعزيز الاستثمارات، والتحذيرات من الديون المتراكمة والعجز المستقبلي، تبدو ميزانية 2025م، كمعادلة دقيقة بين الطموح والواقع. فالحكومة تريد تحفيز النمو والاستجابة لتحديات الدفاع والتحول الأخضر، لكنها في ذات الوقت تقرّ بأن الهامش المالي محدود، وأن استمرار هذا النهج يتطلب إما نموًا اقتصاديًا فعليًا أو توافقًا سياسيًا واسعًا لتحديث القواعد الدستورية المنظمة للإنفاق. ولا يعتمد نجاح هذه الميزانية على حجم الاستثمارات فقط، بل بقدرة الحكومة على تنفيذها دون خلق فجوات تمويلية تهدد استقرار ألمانيا المالي في السنوات القادمة.
سوق العمل: تباطؤ انتعاش سوق العمل في الربيع وواحد من كل أربعة من العمال المهاجرين يفكر بمغادرة ألمانيا
اظهر تقرير لوكالة العمل الاتحادية (BA)، ان عدد العاطلين في المانيا قد انخفض في شهر مايو بنحو 12 ألف شخص ليصل مجموع العاطلين الى 2.919.000 شخص، وبالمقارنة مع عدد العاطلين عن العمل في نفس الشهر من العام الماضي يمثل هذا العدد زيادة بمقدار 197,000 شخص. ووفقاً لذلك تراجع معدل البطالة في مايو 2025م، بنحو 0.1 نقطة مئوية عن الشهر السابق ليبلغ 6.2 في المئة، لكنه لا يزال أعلى بـ 0.4 نقطة مئوية مقارنة بشهر مايو 2024م.
وأكدت Andrea Nahles، رئيسة مجلس إدارة وكالة العمل الاتحادية (BA)، أن “الانتعاش الربيعي الذي شهده سوق العمل قد انتهى، لكنه كان ضعيفًا بشكل عام. بحيث لم يمنح سوق العمل الزخم اللازم لإحداث تحول إيجابي في الاتجاه، ولهذا نتوقع استمرار ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل خلال فصل الصيف”.
وبالنسبة الى برنامج العمل بدوام جزئ فقد بلغ عدد الموظفين الجدد الذين تم تسجيلهم خلال الفترة ما بين 1 و22 مايو 2025 نحو 33,000 موظف. وتشير أحدث بيانات وكالة العمل الاتحادية الى انه تم في شهر مارس 2025م، صرف تعويضات لحوالي 248,000 موظف، بانخفاض 13,000 عن فبراير، ولكن بزيادة قدرها 38,000 مقارنة بمارس 2024م. كما بلغ عدد الوظائف الشاغرة المسجلة في وكالة العمل الاتحادية في مايو 2025م، 634,000 وظيفة شاغرة، أي أقل بمقدار 67,000 وظيفة مقارنة بالعام السابق.
في سياق متصل، كشفت دراسة حديثة أن حوالي ربع المهاجرين إلى ألمانيا يفكرون في مغادرتها بشكل دائم، لا سيما بين أصحاب المؤهلات العالية. ووفقًا لمعهد بحوث سوق العمل والوظائف (IAB)، فإن نحو 26 في المئة من الأشخاص الذين هاجروا إلى ألمانيا يدرسون خيار الرحيل، فيما عبّر 3 في المئة، أي ما يعادل نحو 300 ألف شخص، عن وجود خطط ملموسة لمغادرة البلاد. جاءت هذه النتائج بناءً على استطلاع شمل عينة تمثيلية من المهاجرين المقيمين في ألمانيا.
أشار المشاركون في الاستطلاع إلى عدة دوافع وراء رغبتهم في الرحيل، كان أبرزها الشعور بعدم الرضا السياسي، والأسباب الشخصية، وعبء الضرائب، بالإضافة إلى البيروقراطية. وتبيّن أن نسبة كبيرة من المهاجرين الأوروبيين يرغبون في العودة إلى بلدانهم الأصلية، حيث جاءت بولندا في المرتبة الأولى كوجهة مفضلة للراغبين في المغادرة، تليها رومانيا. كما شملت الوجهات الشائعة دولًا أوروبية من خارج الاتحاد الأوروبي مثل تركيا وأوكرانيا. أما في حال الهجرة إلى دول جديدة بدلًا من العودة إلى الوطن الأم، فقد أشار كثيرون إلى رغبتهم في الانتقال إلى دول مثل سويسرا، والولايات المتحدة، وإسبانيا.
رغم ذلك، أظهرت الدراسة أن أغلبية ضئيلة من المهاجرين، حوالي 57 في المئة، أي نحو 5.7 ملايين شخص، يخططون للبقاء في ألمانيا على المدى الطويل. وأوضح Lukas Olbrich، الباحث في معهد IAB، أن “الأشخاص الذين قدموا إلى ألمانيا لأغراض العمل أو التعليم، ممن يتمتعون بمؤهلات عالية، ونجحوا اقتصاديًا، ويتقنون اللغة الألمانية بدرجة جيدة، هم الأكثر ميلاً للتفكير بالرحيل أو وضع خطط فعلية لذلك”. وأضاف أن هؤلاء يمثلون بالضبط الفئة التي تحتاج إليها ألمانيا بشدة لسد فجوة المهارات المتخصصة. وتتركز هذه الظاهرة بشكل خاص في القطاعات المعروفة بكثافة المعرفة، مثل تكنولوجيا المعلومات، والخدمات المالية، والتأمين. ووفق الدراسة، فإن ما بين 30 و39 في المئة من المهاجرين العاملين في هذه القطاعات يدرسون خيار مغادرة ألمانيا.
أما الأسباب التي دفعت المهاجرين للتفكير في الرحيل، فهي لا تقتصر على فئة معينة؛ إذ عبّر كل من العمال المهاجرين، والملتحقين بالبرامج التعليمية، والمهاجرين بدافع لم الشمل الأسري عن دوافع مشابهة. فيما أضاف اللاجئون إلى القائمة تجارب التمييز كعامل إضافي في اتخاذ قرار المغادرة.
بالنسبة للمهاجرين الذين يخططون للعودة إلى بلدانهم الأصلية، كانت الدوافع الاجتماعية ذات أهمية خاصة، حيث شكلت العلاقات الشخصية مع الشريك أو العائلة أو الأصدقاء سببًا رئيسيًا للعودة. في المقابل، أبدى من يخططون للهجرة إلى دول جديدة اهتمامًا أكبر بالفرص المهنية والوضع الاقتصادي في البلد المستهدف. وأكدت Katia Gallegos-Torres، الباحثة في المعهد، أن “النية في المغادرة لا تنشأ من فراغ، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين عدة عوامل، منها الدوافع الفردية، والخصائص الشخصية مثل الجنس والعمر والمستوى التعليمي، إلى جانب مدى الاندماج الاجتماعي والاقتصادي، ومدى القبول المجتمعي للمهاجرين”. وقد شمل الاستطلاع الذي أُجري بين ديسمبر 2024 وأبريل 2025 حوالي 50 ألف مهاجر ومهاجرة من مختلف الجنسيات والخلفيات.
ازدياد مخاطر اعتماد الصناعات الألمانية الكبرى على الخارج
تحذر العديد من التقارير والدراسات الحديثة إلى أن الصناعات الألمانية الأساسية لا تزال تعتمد بشكل كبير على سلاسل التوريد العالمية والمواد الخام القادمة من الخارج، وهو ما يمثل تهديدًا خطيرًا لقدرة ألمانيا على الصمود الاقتصادي والتنافس الصناعي، خاصة في ظل الاضطرابات الجيوسياسية والحروب التجارية المستعرة. وفي هذا الإطار، أطلقت كل من نقابة عمال المعادن الألمانية (IG Metall) واتحاد الصناعات الألمانية (BDI) تحذيرًا مشتركًا، أكدا فيه أن “تعزيز مرونة الصناعة الألمانية يجب أن يكون أولوية قصوى لألمانيا وشركائها”. وحذرا من أن استمرار الاعتماد المفرط على الخارج يشكل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل الصناعة الألمانية ومكانتها التنافسية. وكشفت دراسة أعدتها شركة “Prognos ” للاستشارات، عن مدى هذا الاعتماد. وأظهرت الدراسة ثلاث قطاعات صناعية رئيسية تعاني من تبعية مقلقة:
المعادن النادرة والغرافيت: تعتمد ألمانيا وأوروبا بنسبة تتجاوز 90 في المئة على الصين للحصول على هذه المواد الحيوية، المستخدمة مثلًا في بطانات الفرامل وتكنولوجيا البطاريات.
المنتجات الوسيطة: الصين ليست المورد الأكبر للمواد الخام فحسب، بل توفر أيضًا نسبة عالية من المنتجات الوسيطة. فعلى سبيل المثال، يأتي أكثر من 90 في المئة من المواد المستخدمة في بطاريات الليثيوم-أيون من الصين.
أشباه الموصلات: رغم استهلاك أوروبا نحو 20 في المئة من الإنتاج العالمي للرقائق الدقيقة، فإنها تنتج محليًا أقل من 10 في المئة. ويزداد الاعتماد الخارجي خاصة في الرقائق الحديثة المستخدمة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي تُصنّع غالبًا في تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة. وتوضح هذه الأرقام حجم الاعتماد الذي يربط الصناعة الألمانية بالتجارة العالمية الحرة وسلاسل الإمداد المستقرة. وفي ظل التوترات الجيوسياسية وتغير موازين القوى الاقتصادية العالمية، تبرز الحاجة الماسة لوضع استراتيجيات جديدة تُعزز مرونة الاقتصاد الألماني وتقلل من التبعية المفرطة للخارج، حفاظًا على مكانة ألمانيا التنافسية ودورها الريادي في الصناعة العالمية.
وفي هذا المجال تأتي سياسة «خفض المخاطر» (Derisking)، الذي تضمنته استراتيجية الصين التي اعتمدتها الحكومة الألمانية في يوليو 2023م. وعلى الصعيد الأوروبي، جرى بالفعل اتخاذ خطوات تهدف إلى تقليل الاعتماد الكبير على الصين والدول غير الديمقراطية الأخرى فيما يتعلق بإمدادات المواد الخام، من ذلك “قانون المواد الخام الحرجة” (Critical Raw Materials)
في هذا السياق، تدعم المفوضية الأوروبية حاليًا 47 مشروعًا في قطاع المواد الخام لتعزيز الاستقلالية عن الصين. غير أن التحديات لا تقتصر على الأنظمة الاستبدادية، بل تشمل أيضًا شريكًا ديمقراطيًا رئيسيًا، وهو الولايات المتحدة، ففي حال تصاعد الحرب التجارية، يواجه الاتحاد الأوروبي أيضًا اعتمادًا صناعيًا مقلقًا على السوق الأمريكية. فعلى سبيل المثال، يشير تقرير صادر عن شركة “Prior1” المتخصصة في مراكز البيانات إلى أن مزودي الخدمات الأمريكيين يسيطرون على ما بين 65 و72 في المئة من القدرات السحابية الأوروبية، وهي ضرورية لتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة (Industrie 4.0)، وفي حال فقدان هذه القدرات فجأة، ستضطر ألمانيا لتعويض ما يصل إلى 1200 ميجاواط من الطاقة المعلوماتية الإضافية، أي ما يعادل 40 في المئة من إجمالي السعة الحالية.
كما توضح دراسة شركة Prognos وجود تبعية مرتفعة للعديد من الصناعات الرئيسية تجاه دول قد تستخدم هيمنتها الاقتصادية لأغراض سياسية، سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل القريب. فعلى سبيل المثال، تعتمد ألمانيا وأوروبا بنسبة 100 في المئة على واردات المعادن المشتقة من التيتانيوم المستخدمة في الصناعات الدفاعية، ويأتي الإمداد من دول مثل كازاخستان وروسيا، أما المغناطيسات الدائمة اللازمة لتوربينات طاقة الرياح، فيُستورد أكثر من 90 في المئة منها من الصين.
ويُحذّر البيان المشترك الصادر عن IG Metall وBDI من أن “تزايد الطلب على المواد الخام والاعتماد المرتفع على الواردات يهددان بأن يصبحا نقطة ضعف حاسمة للتنمية الصناعية في ألمانيا وأوروبا”. كما أشار إلى خطر تراجع القارة الأوروبية في السباق العالمي على المواد الخام الاستراتيجية اللازمة للطاقة المتجددة وتخزين الطاقة وصناعة أشباه الموصلات. كما يحذّر خبراء ” Prognos ” من أن دولًا مثل الصين تطور بشكل متزايد قدرات تصنيع ومعالجة لا تتوافر لدى الشركاء الصناعيين في ألمانيا وأوروبا. ويُستغل هذا التقدم أحيانًا لتحقيق هيمنة مطلقة في السوق وإزاحة المنافسين تمامًا، ما يؤدي إلى تفاقم التبعية أكثر فأكثر.
يوصي معدو الدراسة الحكومات في ألمانيا وأوروبا بضرورة عقد شراكات استراتيجية جديدة لتأمين المواد الخام ومواجهة التحديات التي يفرضها المنافسون العالميون. ويشمل ذلك أيضًا العمل على إعادة توطين إنتاج المنتجات الوسيطة الرئيسية داخل أوروبا، رغم التحديات المتمثلة في ارتفاع تكاليف الطاقة والعمل والمعايير البيئية.
البدء في انتاج اول طائرة مدنية ألمانية بالكامل منذ 20 عاما
بدأت شركة Deutsche Aircraft GmbH لصناعة الطائرات في انتاج طائرة مدنية لنقل الركاب بإنتاج ألماني كامل بعد نحو 20 عاما من الغياب. والطائرة الجديدة من نوع Dornier 328eco، تتسع لـ 40 راكبًا وقد اجرت اول اختبار للطيران في مطار Oberpfaffenhofen قرب ميونخ. الطائرة الجديدة مبنية على نموذج Dornier 328 القديم، لكن جرى تمديد هيكلها بحوالي مترين، مع تزويدها بمحركات حديثة من Pratt & Whitney لتحسين كفاءتها مقارنة بالطراز السابق.
وتُقدر تكلفة تطوير هذه الطائرة بنحو 500 مليون يورو، منها 125 مليون يورو قدمتها الحكومة الألمانية عبر بنك التنمية KfW، في حين تموّل شركة Sierra Nevada Corporation الأمريكية بقية المبلغ. الجدير بالذكر أن شركة Deutsche Aircraft GmbH حصلت عام 2015م، على خدمة الصيانة وشهادة الطراز لطائرات Dornier 328، ما يمنحها الحق في متابعة تصنيع هذا الطراز.
وستنتقل عملية تصنيع الطائرة الجديدة اعتبارًا من العام المقبل إلى مطار لايبزيغ/هاله في ولاية ساكسونيا، حيث بدأت أعمال بناء منشأة إنتاج جديدة في أبريل 2025م. ويحظى المشروع بأهمية استراتيجية، كونه يمثل أول طائرة ركاب مدنية تُطوّر وتُنتج بالكامل في ألمانيا منذ عام 2005م، بعد توقف إنتاج Dornier 328 الأصلي. أحد أسباب سهولة تطوير الطائرة الجديدة يكمن في اعتمادها على طراز مُعتمد سابقًا، ما يخفف من تعقيدات إجراءات الشهادات مقارنة بمشاريع أخرى مثل الطائرات الكهربائية الحديثة. ويؤكد خبراء الطيران، ومنهم Gerald Wissel من شركة Airborne Consulting، أن هذا العامل سيجعل Dornier 328eco طائرة موثوقة وفعالة.
من جانبه، صرّح وزير رئيس ولاية بافاريا بأن هذا المشروع جزء من استثمار إقليمي ضخم يبلغ ست مليارات يورو لتعزيز البحث العلمي والتقني، بما يشمل تأسيس أكبر كلية للطيران والفضاء في أوروبا. بفضل هذه الاستثمارات والدعم الحكومي، تعزز ألمانيا موقعها مجددًا في صناعة الطائرات، التي شهدت ركودًا منذ توقف إنتاج طائرات Dornier 328 قبل عقدين.
مع كل ما تقدّم عن مشروع الطائرة الألمانية Dornier 328eco وإعادة إحيائه بعد عقدين من الغياب، تبقى مسألة السوق المستهدف واحدةً من أبرز التحديات التي يشترك فيها هذا المشروع مع مشروع الطائرات الكهربائية مثل “ليليوم”. وفقًا لتقديرات نيكو نيومان، الرئيس المشارك لشركة Deutsche Aircraft، فإن الحاجة العالمية إلى الطائرات الإقليمية تُقدّر بحوالي 3800 طائرة. ذلك أن كثيرًا من الطائرات ذات المحركات التوربينة المروحية المستعملة قد وصلت إلى عمر متقدّم، وأصبحت بحاجة ماسة للاستبدال، في حين لم تعد شركات مثل Saab وBombardier تُنتج طائرات مروحية جديدة، تاركةً الساحة تقريبًا لشركة ATR الفرنسية-الإيطالية، التي تنتج طائرات أكبر قليلًا من Dornier 328eco.
ورغم توفر هذه الفرص السوقية، إلا أن الخبير Gerald Wissel من شركة Airborne Consulting في هامبورغ، يعبّر عن تشكّكه في إمكانية استغلال هذه الفرص بصورة اقتصادية مُستدامة. فبالرغم من أن الطائرة الجديدة مناسبة جدًا للرحلات القصيرة جدًا، غير أن شركات الطيران الكبرى في أوروبا تميل تدريجيًا للتخلّي عن مثل هذه الخطوط القصيرة لصالح حلول بديلة كالنقل بواسطة السكك الحديدية، وذلك تحقيقًا لأهداف مناخية وتقليلًا للتكاليف. ويضيف أن هذه الشركات الكبيرة تسعى إلى توحيد أساطيلها وتقليل عدد أنواع الطائرات التي تشغلها، بهدف خفض تكاليف الصيانة والتدريب. وبرغم إقراره بوجود أسواق متخصّصة، الا ان كفاية حجم هذه الأسواق لتامين طلب مستدام لهذا النوع من الطائرات ما يزال امر مشكوكا فيه.
من جانبها تركز استراتيجية شركة Deutsche Aircraft، المنتجة للطائرة على أسواق خارج أوروبا الوسطى، مثل كندا، الولايات المتحدة، الدول الاسكندنافية، أفريقيا، بل وحتى جنوب شرق آسيا، حيث تحظى خطوط الطيران الإقليمية بأهمية خاصة في مناطق ذات بنية نقل محدودة. كما تخطط الشركة لاستخدام الطائرة في أدوار متعددة، لا تقتصر على نقل الركاب فحسب، بل تشمل أيضًا نقل البضائع والعمليات العسكرية وحتى الإسعاف الجوي، مع توقعات ببيع 48 طائرة سنويًا.
وعلى الرغم من الطلبيات الأولية لشراء الطائرة اقتصرت حتى الآن على نوايا شراء لـ 34 طائرة فقط، بينها خمس طائرات أعلنت عنها شركة Private Wings. الا ان كسب اهتمام واحدة من شركات الطيران الكبرى سيكون عاملًا مهمًا لزيادة قبول هذه الطائرة، إلا أن هذه الشركات تتبع عادةً معايير شديدة الدقة عند إدخال طراز جديد في أساطيلها، بدءًا من سعر الطائرة إلى تكاليف تدريب الطواقم والصيانة وتوافر قطع الغيار. في هذا السياق، غالبًا ما تجد الشركات الصغيرة وغير المعروفة صعوبة في منافسة عملاقي صناعة الطيران المدني إيرباص وبوينغ. ويبقى التحدي الآخر في تسعير الطائرة بشكل يجعلها جاذبة للعملاء المحتملين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن إنتاجها يجري في ألمانيا، حيث مستويات الأجور مرتفعة.
جدير بالذكر ان ألمانيا تُعد أحد المساهمين الرئيسيين في شركة إيرباص لصناعة الطائرات إلى جانب شركائها الأوروبيين الآخرين، فرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة. وتشارك ألمانيا بفعالية في مختلف مراحل إنتاج وتصنيع الطائرات، إذ تحتضن مصانع ومنشآت هندسية متطورة تابعة لإيرباص، خاصة في مدينتي هامبورغ وبريمن، حيث يتم تصنيع هياكل الطائرات وأجزاء من الاجنحة وكذلك أجزاء من قمرة القيادة وإجراء عمليات التركيب والتجميع النهائية لعدد من طرازات الطائرات مثل الأنواع المختلفة من ايرباص A320.