انخفض مؤشر معهد ifo لمناخ الاعمال للشركات الألمانية في شهر سبتمبر 2025م، الى مستوى 87.7 نقطة مقابل 88.9 نقطة في شهر أغسطس الماضي، وكان السبب الرئيسي في هذا الانخفاض هو تراجع رضا الشركات عن مستوى اعمالها الراهن وكذلك تزايد التشاؤم بشأن مستوى الاعمال المتوقع في الأشهر القادمة. ويؤشر هذا الانخفاض الى تلاشي الآمال بانتعاش اقتصادي سريع في ألمانيا.

     في قطاع الصناعة تراجع مؤشر مناخ الاعمال في القطاع في سبتمبر الى مستوى ( -13.3 نقطة) بعد ان كان عند مستوى ( -12.4 نقطة) في الشهر السابق، وجاء هذا التراجع نتيجة تقييم أكثر سلبية من قبل شركات القطاع للوضع الراهن للأعمال إلى جانب نظرة تتسم بالتحفظ حول مستوى الاعمال في الفترة القادمة، خصوصا مع استمرار انخفاض الطلبيات الجديدة وتلاشى التفاؤل الذي كان قد ظهر مؤخرًا لدى منتجي السلع الصناعية الاستثمارية.

    أما في قطاع الخدمات فالصورة تبدو أكثر قتامة، حيث تراجع مؤشر مناخ الاعمال من مستوى 2.6 نقطة في شهر أغسطس الماضي الى قيمة سلبية في شهر سبتمبر عند مستوى ( -3 نقاط)، وهو أدنى مستوى للمؤشر منذ فبراير الماضي. ويرجع هذا التراجع الكبير في مناخ الأعمال الى ان توقعات شركات القطاع لمستقبل الاعمال خلال الأشهر القادمة اتسمت بتشاؤم حاد، بالإضافة الى ان الشركات أعادت النظر في تقييم مستوى اعمالها الحالي نحو الأسوأ. وكان قطاع النقل واللوجستيات الأكثر تأثرًا، ما يعكس هشاشة سلاسل التوريد والضغوط الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد.

    فيما يتعلق بقطاع التجارة، فقد تراجع مؤشر مناخ الأعمال في سبتمبر الى مستوى (-22.9 نقطة) متراجعا عن مستوى ( -21.4 نقطة) المسجل في الشهر الماضي، وكان هذا التراجع مدفوعًا بزيادة التشاؤم حول مستوى الاعمال خلال الأشهر القادمة، لكن مع تقييم أفضل نسبيًا لوضع الاعمال الحالي. اللافت أن تجارة التجزئة أظهرت تحسنًا نسبيًا، في حين تراجعت تجارة الجملة، ما يشير إلى اختلاف التوجهات بين الاستهلاك المباشر والتعاملات بين الشركات.

     وبخلاف القطاعات الأخرى، أظهر قطاع البناء مؤشرات إيجابية، إذ ارتفع المؤشر الى مستوى ( -14.6 نقطة) في سبتمبر الحالي بعد انخفاضه في الشهر السابق الى مستوى ( -15.5 نقطة).   حيث بدت شركات القطاع أكثر رضا عن نشاطها الحالي، كما تحسنت توقعاتها للأشهر المقبلة، وهو ما يعكس ربما استمرار الطلب على مشروعات البنية التحتية والإسكان رغم تحديات التمويل.

     في غضون ذلك أشارت تقارير اقتصادية حديثة صادرة عن عدد من أبرز المعاهد الاقتصادية الألمانية إلى تراجع ملحوظ في التوقعات الخاصة بأداء الاقتصاد الألماني خلال الأعوام المقبلة، حيث يسود تشاؤم متزايد بشأن قدرته على استعادة النمو. فمن جانبه أعلن معهد الاقتصاد العالمي في كيل (IfW) عن خفض توقعاته للنمو الاقتصادي في ألمانيا، متوقعًا أن يقتصر معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025م، على 0,1 في المئة فقط، بعد أن كانت تقديراته في يونيو عند مستوى 0,3 في المئة. كما خفّض المعهد توقعاته للنمو في العام 2026م، من 1,6 في المئة إلى 1,3 في المئة، وللعام 2027م، إلى 1,2 في المئة. ويأتي ذلك بعد عامين متتاليين من الانكماش الذي شهده أكبر اقتصادات أوروبا، في ظل ما وصفه الباحثون بضعف المحركات القادرة على تحقيق انتعاش ذاتي مستدام.

     الاتجاه ذاته اتبعه معهد ifo في ميونيخ، حيث قلص توقعاته هو الآخر، وإن كان بصورة أكثر تفاؤلاً بعض الشيء، إذ توقع نمواً نسبته 0,2 في المئة فقط لعام 2025م، مع تقديرات مماثلة لمعهد الاقتصاد العالمي في كييل (IfW)، بأن يصل النمو في 2026م، إلى 1,3 في المئة، على أن يتحسن الوضع في 2027م ليبلغ 1,6 في المئة. أما معهد الابحاث الاقتصادية في إيسن (RWI)، فقد حذر من اتساع اعتماد الاقتصاد الألماني على الإنفاق الحكومي، متوقعًا نمواً ضعيفاً لا يتجاوز 0,2 في المئة هذا العام، ثم 1,1 في المئة في 2026م، و1,4 في المئة في 2027م، وهو ما يعكس تراجعاً عن تقديرات المعهد السابقة.

    ويشير الخبراء والباحثون الاقتصاديون الى العوامل المتعددة الضاغطة على الاقتصاد، والتي من أبرزها استمرار السياسات الجمركية الأمريكية، حيث تشكل الرسوم المرتفعة على الصادرات الألمانية عبئًا كبيرًا على الصناعات الموجهة نحو السوق الأمريكية، التي تعد الشريك التجاري الأهم لألمانيا. ورغم أن التوصل إلى اتفاق بين واشنطن وبروكسل خفف من حدة التوترات، إلا أن الرسوم الفعلية لم تتغير كثيرًا، وهو ما يحدّ من أثر الاتفاق على تحفيز الصادرات.

     غير أن التحدي الأكبر، وفق معهد RWI، لا يكمن في السياسات الجمركية وحدها، بل في تراجع القدرة التنافسية الهيكلية للاقتصاد الألماني على المستوى العالمي. فقد أشار خبراء المعهد إلى أن استمرار ضعف الاستثمارات الخاصة وتباطؤ الابتكار يعكس حاجة ملحّة إلى إصلاحات هيكلية شاملة، معتبرين أن الاعتماد المفرط على الإنفاق الحكومي لا يمكن أن يحل محل الدينامية الاقتصادية المستندة إلى القطاع الخاص. بل إن هذا الاعتماد، إذا ترافق مع تباطؤ صرف الأموال المرصودة في الصناديق الخاصة، قد يفاقم الأزمة ويؤدي إلى نمو أضعف في المستقبل.

      أما معهد ifo فقد شدّد على ضرورة الإسراع في تنفيذ حزمة من السياسات الاقتصادية، تشمل زيادة الإنفاق على البنية التحتية والدفاع، وتوسيع الحوافز الضريبية مثل السماح بمعدلات إهلاك أسرع للمشاريع، وخفض ضريبة القيمة المضافة على قطاع الضيافة، وتقليص ضريبة الكهرباء على الصناعات الإنتاجية، إلى جانب تخفيض رسوم استخدام الشبكات ورفع بدل التنقل. ويرى خبراء المعهد أن نجاح هذه التدابير في التطبيق العملي قد يسهم في تقليص حالة عدم اليقين ويعزز الثقة الاقتصادية، في حين أن استمرار الجمود السياسي سيؤدي إلى مزيد من الركود وتآكل مكانة ألمانيا كوجهة استثمارية.

     وفيما يخص التوقعات المستقبلية، يعتقد الخبراء الاقتصاديون أن الأثر الإيجابي للتوجهات المالية التوسعية لن يظهر بوضوح إلا بدءًا من عام 2026م، حيث سترتفع قيمة الحوافز الاقتصادية إلى نحو 38 مليار يورو، مقارنة بتسعة مليارات فقط خلال العام الحالي. وبحسب معهد IfW فإن السياسة المالية التوسعية للحكومة قد ترفع معدل النمو في 2026م، بنحو 0,6 نقطة مئوية.

     ويتفق العديد من الخبراء أن الاقتصاد الألماني يقف عند مفترق طرق: فهو يواجه في الأجل القصير تحديات ضاغطة تتمثل في الرسوم الجمركية، ضعف الطلب المحلي، واستمرار الاعتماد على الدولة، بينما يحتاج في الأجل المتوسط والبعيد إلى إصلاحات هيكلية جذرية تعيد له تنافسيته المفقودة وتضمن له قدرة على النمو الذاتي بعيدًا عن المحركات المصطنعة التي توفرها السياسات الحكومية المؤقتة.

 

 

سوق العمل: عدد العاطلين عن العمل يتجاوز حاجز 3 ملايين وأكثر من 100 ألف عدد النقص في المتخصصين في تقنية المعلومات

     شهدت ألمانيا في أغسطس 2025 تطورًا لافتًا في سوق العمل، حيث تجاوز عدد العاطلين عن العمل حاجز الثلاثة ملايين وذلك لأول مرة منذ فبراير 2015م.  وهو ما يعكس عمق التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد. فقد أعلنت وكالة العمل الاتحادية (BA)، أن عدد العاطلين بلغ 3,025 مليون شخص، أي بزيادة قدرها 46 ألفًا عن شهر يوليو الماضي، وبارتفاع 153 ألفًا مقارنة بشهر أغسطس من عام 2024م. وارتفعت نسبة البطالة إلى 6,4 في المئة، وهو أعلى مستوى لها منذ سنوات، ما يعكس ضعف سوق العمل في ظل الركود الاقتصادي المستمر.

     وأرجعت الوكالة هذا الارتفاع إلى عاملين رئيسيين، العطلة الصيفية التي عادة ما تشهد تباطؤًا في التوظيف وانتهاء الكثير من عقود التدريب، إضافة إلى استمرار تأثير ضعف الاقتصاد الألماني خلال السنوات الأخيرة. وأشارت Andrea Nahles، المديرة التنفيذية للوكالة، إلى أن سوق العمل ما يزال يعاني من تبعات التباطؤ الاقتصادي، لكنها لفتت في المقابل إلى وجود بعض المؤشرات الإيجابية، مثل تراجع معدلات العمل بدوام الجزئي (Kurzarbeit) منذ بداية العام، وعودة بعض الشركات إلى الإعلان عن وظائف جديدة خلال شهر أغسطس.

     وتكشف بيانات مكتب العمل عن تفاوت إقليمي كبير في نسب البطالة. فقد سجلت بريمن (11.8 في المئة)، وبرلين (10.5 في المئة)، أعلى المعدلات، بينما كانت أدناها في الولايات الجنوبية الصناعية المزدهرة مثل ولاية بافاريا (4.2 في المئة)، وبادن-فورتمبيرغ(4.7 في المئة). هذه الفوارق تؤكد الطبيعة غير المتوازنة لسوق العمل الألماني، حيث تتركز الفرص في بعض الأقاليم، بينما تعاني مناطق أخرى من بطالة مزمنة.

     من جانب أخر بلغ عدد المسجلين الجدد في برنامج العمل بدوام جزئي خلال الفترة بين 1 وحتى 25 أغسطس 25 ألف شخص في حين كان عدد المسجلين الجدد لشهر يوليو نحو 39 ألف شخص. وبحسب أخر البيانات المتوفرة بلغ أجمالي عدد المستفيدين من تعويضات برنامج العمل بدوام جزئي في شهر يونيو 2025م، نحو 211 ألف شخص.  ورغم أن مستوى عدد المسجلين في البرنامج ما يزال مرتفعًا، إلا أنه يشهد منذ بداية العام تراجعًا تدريجيًا طفيفًا. وفي مجال الطلب على العمالة بلغ عدد الوظائف الشاغرة المسجلة لدى مكتب العمل الاتحادي (BA)، خلال شهر أغسطس 2025م، 631 ألف وظيفة، أي أقل بـ 68 ألف وظيفة مقارنة بالعام الماضي.

     في سياق متصل، أشار تقرير جديد صادر عن اتحاد الاتصال والمعلوماتية الألماني (Bitkom)، إلى أن الاقتصاد الألماني ما يزال يعاني من عجز كبير في الكفاءات بمجال تكنولوجيا المعلومات (IT)، حيث تفتقد ألمانيا حاليًا إلى نحو 109 ألف متخصص في هذا القطاع الحيوي. ورغم أن هذا الرقم أقل من العجز الذي سُجل قبل عامين (149 ألفًا)، إلا أن الوضع لا يزال مقلقًا بالنسبة للشركات التي تؤكد استمرار معاناتها مع ندرة الكفاءات.

     وبحسب استطلاع لاتحاد الاتصال والمعلوماتية Bitkom، فإن 85 في المئة من الشركات ترى أن هناك نقصًا حادًا في الكفاءات الرقمية، في حين اعتبرت 10 في المئة فقط أن العرض كافٍ. الأهم أن 79 في المئة من المؤسسات تتوقع أن يزداد الوضع سوءًا خلال السنوات المقبلة، وهو ما يعكس خطورة الأزمة على سوق العمل والتنافسية الاقتصادية.  

     وتكشف البيانات أن الوظائف الشاغرة في قطاع تكنولوجيا المعلومات تحتاج في المتوسط إلى 7,7 أشهر ليتم شغلها، وهي نفس المدة المسجلة قبل عامين. هذا يعكس أن تراجع عدد العاطلين أو التسريحات لم يساهم في سد الفجوة، بل إن الحاجة إلى خبراء IT تزداد بفعل تسارع التحول الرقمي في كل من الشركات والإدارات الحكومية. ويؤكد Ralf Wintergerst، رئيس Bitkom، أن العوامل الديموغرافية مثل الشيخوخة السكانية تفاقم الأزمة، مشيرًا إلى أن النقص كان أقل حدّة في عام 2021م.

     وأوضح Wintergerst، أن التراجع النسبي في العجز يعود إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها ألمانيا منذ عامين، حيث اضطرت 6 في المئة من الشركات إلى تسريح موظفين في قطاع تكنولوجيا المعلومات خلال العام الماضي، بينما تتوقع 14 في المئة منها المزيد من التخفيضات في الأشهر القادمة. أحد العناصر التي تثير الجدل في المشهد المستقبلي هو الذكاء الاصطناعي (KI). فبينما ترى 42 في المئة من الشركات أن التوسع في تطبيقاته سيؤدي إلى زيادة الحاجة لمتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، تعتقد 27 في المئة منها أنه قد يقلص من عدد الوظائف عبر الأتمتة.

     في ظل هذا النقص، تلجأ الشركات إلى برامج التدريب المستمر وإتاحة المجال أمام التحويل المهني (Quereinsteiger)، إضافة إلى محاولة تشجيع النساء على دخول هذا المجال الذي لا يزال يهيمن عليه الرجال. ويؤكد الخبراء أن الاستفادة من هذه الموارد البشرية غير المستغلة يمكن أن تساهم في تضييق الفجوة المستقبلية.

 

تراجع عدد الشركات الناشئة الجديدة في ألمانيا

     شهدت ألمانيا في السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في عدد الشركات الناشئة، وهو الامر الذي قد يهدد مكانة الاقتصاد الألماني كمحرك عالمي للابتكار والتصدير. ففي عام 2024م، لم يتجاوز عدد الشركات الناشئة الجديدة 161 ألف شركة، مقارنة بمتوسط 168 ألف شركة سنويًا بين 2015م و2021م، وأكثر من 200 ألف في بداية الألفية. هذا التراجع يثير قلق الباحثين والخبراء، خاصة وأن الشركات الناشئة تمثل تقليديًا رافعة للتجديد الاقتصادي والتكنولوجي.

     ويُشير خبراء من مركز الأبحاث الاقتصادية الأوروبية (ZEW) ومعهد Creditreform للأبحاث الاقتصادية إلى أن انخفاض أعداد الشركات الناشئة الجديدة يهدد الابتكار، إذ إن الشركات الناشئة غالبًا ما تقدم أفكارًا جديدة وتضغط على الشركات الكبرى لمواكبة التطوير. وبحسب الإحصاءات، فإن 17 في المئة من الشركات الناشئة في القطاعات البحثية تقدّم منتجات مبتكرة للسوق، وهي نسبة تمثل ضعف المعدل لدى الشركات القائمة.

     القلق الأكبر يتمثل في انكماش تأسيس شركات ناشئة في القطاعات التكنولوجية، التي كانت تقليديًا العمود الفقري للاقتصاد الألماني. ففي الصناعات كثيفة البحث، انخفض عدد الشركات الجديدة إلى النصف مقارنة بعام 2016م، كما سجل قطاع بناء المعدات والآلات تراجعًا بلغ 28 في المئة خلال عام واحد فقط. هذا التراجع يُعزى إلى عدة عوامل؛ من أبرزها تداعيات الحرب في أوكرانيا التي رفعت أسعار الطاقة، إذ لا يزال الغاز الطبيعي أعلى بنحو 50 في المئة مما كان عليه قبل الأزمة، ما وضع الشركات الناشئة في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة أمام عوائق مالية صعبة.

     علاوة على ذلك، تبرز البيروقراطية الألمانية كأحد أبرز مثبطات النشاط الريادي، حيث يقضي رواد الأعمال الجدد في المتوسط تسع ساعات أسبوعيًا في التعامل مع اللوائح والالتزامات القانونية المتعلقة بالعمل والضرائب وحماية البيانات. في بعض القطاعات، مثل البناء، تصل هذه الأعباء الإدارية إلى أكثر من 12 ساعة أسبوعيًا، ما يضعف القدرة التنافسية في ظل ارتفاع أسعار الفائدة وتكاليف المواد.

على الرغم من هذا التراجع العام، هناك قطاعان يشهدان نموًا نسبيًا في التأسيس: الخدمات المهنية (مثل المحاماة والاستشارات وتنظيم الفعاليات) بزيادة 5,2 في المئة، والضيافة (المطاعم والفنادق) بزيادة 4,4 في المئة. وشهد قطاع الضيافة ككل عودة لوتيرة التأسيس كما كانت في العام 2016م، بعد الانكماش الذي سببته جائحة كورونا، على الرغم من أن العديد من المطاعم تغلق أبوابها لنقص العمالة وضعف الطلب. ويرى خبراء أن هذه الفجوات تُعوضها مبادرات جديدة أكثر ابتكارًا وجرأة.

     إلى جانب الضيافة، يبرز قطاع الشركات الناشئة المدفوعة بالتكنولوجيا، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، كأحد محركات النمو الجديدة. فقد ارتفع عدد الشركات الناشئة في هذا القطاع في 2024م، بنسبة 11 في المئة ليصل إلى 2766 شركة، بحسب بيانات اتحاد الشركات الناشئة وStartupdetector. ورغم أن حالات الإفلاس في هذا القطاع بلغت مستوى قياسيًا، فإن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي جذب اهتمامًا خاصًا، كما في حالة شركة Black Forest Labs التي أُسست عام 2024م، في فرايبورغ، والمتخصصة في توليد صور فوتوغرافية واقعية قابلة للتعديل عبر النصوص. وقد استطاعت الشركة جذب شركاء كبار مثل دويتشه تيليكوم، وتُصنف بالفعل كمرشح قوي للتحول إلى شركة تتجاوز قيمتها مليار يرو “يونيكورن”.

     الأزمات بدورها تفرز نماذج ابتكار مختلفة، كما يظهر ذلك تأسيس شركة الطيران Skyhub PAD، التي جاءت كرد فعل مباشر على انسحاب لوفتهانزا من مطار بادربورن. حيث قامت شركات وأفراد من منطقة شرق ويستفاليا بتأسيس خدمة طيران خاصة بهم، توفر رحلات يومية إلى ميونيخ بأسعار منافسة. هذا المثال يبرز كيف يمكن لروح المبادرة أن تعوض غياب الشركات الكبيرة، وتحافظ على الترابط الاقتصادي الإقليمي. كذلك، يظهر نموذج شركة العروض الضوئية بالطائرات المسيّرة Sirius Drone Shows، التي تأسست رغم الركود واستطاعت الحصول على عقود مميزة بفضل الجودة والإبداع، إضافة إلى قرض تأسيسي من حكومة ولاية بادن-فورتمبيرغ. ورغم تحديات البيروقراطية والمنافسة الدولية، تسعى الشركة إلى تعزيز استدامتها بشراء أسطول خاص وتوظيف فريق دائم.

     إزاء هذه التطورات المتناقضة، يبرز سؤال محوري: كيف يمكن لألمانيا أن تحافظ على جاذبيتها كمركز للابتكار؟ يرى خبراء أن الدعم الحكومي للشركات الناشئة يجب أن يكون مركّزًا واستراتيجيًا بدلًا من اتباع نهج “الرش العشوائي” (Gießkannenprinzip ).  مشددين على أن التركيز على القطاعات المعرفية والتكنولوجية ذات القيمة المضافة العالية هو ما يمكن أن يعزز موقع ألمانيا في المنافسة العالمية، خاصة في عصر يشهد سباقًا محمومًا على الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتقنيات الرقمية.

 

صناعة الكيماويات الألمانية تشهد أضعف إنتاج منذ عام 1991م

     تشهد صناعة الكيماويات في ألمانيا واحدة من أصعب مراحلها منذ عقود، حيث سجّلت في الربع الثاني من عام 2025م، تراجعًا حادًا في الإنتاج، لتصل معدلات استغلال الطاقة الإنتاجية إلى 71 في المئة فقط، وهي النسبة الأضعف منذ عام 1991م. هذه الأرقام الصادرة عن اتحاد الصناعات الكيماوية الألمانية (VCI) تكشف بوضوح أن الأزمة الحالية ليست ظرفية بل بنيوية، وتتفاقم بفعل التوترات التجارية والجيوسياسية، خصوصًا مع السياسة الحمائية للولايات المتحدة.

     وبحسب بيانات VCI، فإن الحد الأدنى لتشغيل مصانع الكيماويات بشكل مربح يتطلب معدل استغلال لا يقل عن 82 في المئة، أي أن معظم المنشآت في ألمانيا تعمل اليوم بخسائر مباشرة. لذا تجد شركات عملاقة مثل BASF وCovestro وLanxess نفسها مضطرة للاعتماد على عملياتها الخارجية، خصوصًا في آسيا والولايات المتحدة، لتعويض الخسائر المتراكمة في السوق الألمانية. المفارقة أن هذه الشركات، التي لطالما اعتُبرت قاطرة الاقتصاد الألماني، أصبحت اليوم تكابد لضمان استمرارية الإنتاج المحلي.

     لم تسلم الصناعات الدوائية من التراجع هي الأخرى. فبعد طفرة إنتاجية في الربع الأول من العام، حين سارعت الشركات الألمانية إلى تصدير كميات ضخمة من الأدوية نحو السوق الأمريكية خشية فرض رسوم جديدة، شهد الربع الثاني انخفاضًا ملحوظًا في الإنتاج. غير أن ما يزيد من خطورة الوضع هو أن التراجع في الكيماويات الأساسية يعكس أزمة هيكلية أعمق لا يمكن معالجتها فقط عبر سياسات تصدير مؤقتة. فالأزمة الحالية لا ترتبط فقط بالرسوم الجمركية الأمريكية، بل أيضًا بغياب الطلب الداخلي وضعف المؤشرات الاقتصادية الكلية. فقد أظهر مؤشر مناخ الأعمال لمعهد Ifo أن الطلبات الجديدة في أغسطس كانت في أدنى مستوياتها منذ الأزمة المالية عام 2009م. وأكدت الخبيرة الاقتصادية آنا وولف من معهد Ifo أن “الآمال المؤقتة بانتعاش اقتصادي تبخّرت”، مما يعكس تشاؤمًا متزايدًا لدى المستثمرين والمصنّعين على حد سواء.

     وقد بلغ إجمالي مبيعات قطاع الكيماويات والأدوية في الربع الثاني نحو 52.2 مليار يورو، أي أقل بنسبة 2.7 في المئة عن الفترة ذاتها من العام السابق. أما إنتاج الكيماويات بمفرده فقد هبط بنسبة 5 في المئة، في حين تراجعت المبيعات نتيجة انخفاض الأسعار والطلب معًا. ورغم ذلك، لا يزال اتحاد الصناعات الكيماوية متمسكًا بتوقعاته بانخفاض المبيعات السنوية بنحو 1 في المئة فقط، وهو تقدير يبدو متفائلًا مقارنة بحدة التراجع.

     وتُعدّ صناعة الكيماويات مقياسًا حيويًا لحالة الاقتصاد الألماني، نظرًا لارتباطها الوثيق بمختلف قطاعات الصناعة التحويلية مثل السيارات والبناء. ويشير تراجع الإنتاج فيها بنسبة 5 في المئة مقارنة بالعام الماضي إلى ضغوط متزايدة على الاقتصاد ككل، خصوصًا أن الناتج المحلي الإجمالي المتوقع لألمانيا في 2025م، لا يتجاوز النمو الصفري أو الزيادة الطفيفة. وبهذا تصبح الصناعة الكيماوية مؤشرًا على دخول الاقتصاد في حالة ركود أعمق مما هو معلن رسميًا.

     ويرى المدير التنفيذي لـ VCI، فولفغانغ غروسه إنتروب، أن “الأزمات الجيوسياسية والتذبذب السياسي يشعلان مزيدًا من القلق الاقتصادي”، مشيرًا إلى أن حالة عدم اليقين الواسعة تُعطّل قرارات الاستثمار وتُضعف خطط الشركات. هذه المخاوف انعكست بالفعل على كبرى الشركات، إذ خفضت BASF وCovestro توقعاتهما للأرباح لعام 2025م، وتبعتها Lanxess في أغسطس بالإعلان عن تراجع إضافي في تقديرات الأرباح.

     الجدل الدائر حول الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة يزيد الطين بلّة. فحتى في حال التوصل إلى اتفاق، يشكك قادة الصناعة في إمكانية إزالة حالة عدم اليقين. فقد صرح كريستيان كولمان، المدير التنفيذي لشركة Evonik، بأن “الاعتقاد بأن صفقة تجارية مع الولايات المتحدة ستزيل المخاطر ضرب من السذاجة”، مؤكدًا أن السياسة الأمريكية ستظل متقلبة، ما يعني استمرار القلق لسنوات. الشركة نفسها تتوقع أن تصل أرباحها التشغيلية لعام 2025م، إلى الحد الأدنى من التقديرات المعلنة سابقًا (2 – 2.3 مليار يورو)، وهو ما يوضح هشاشة الوضع.

    وبالرغم الصورة القاتمة، يرى بعض القادة الصناعيين بصيص أمل. فقد أشار مدير Lanxess، ماتياس زاخرْت، إلى أن البرامج الاقتصادية التي أطلقتها الحكومة الألمانية ستؤتي ثمارها تدريجيًا، متوقعًا أن يبدأ العملاء في إعادة تنشيط أعمالهم بنهاية 2025م، على أن يظهر التحسن الفعلي في عام 2026م. لكن هذا التفاؤل مشروط بقدرة الحكومة على معالجة مشكلات هيكلية مزمنة مثل البيروقراطية المفرطة، ونقص البنية التحتية الرقمية، وارتفاع تكاليف الطاقة مقارنة بالدول المنافسة.

     وتكشف أزمة الصناعات الكيماوية الألمانية الراهنة عن مزيج معقد من العوامل: ضعف الطلب الداخلي، الضبابية الجيوسياسية، العبء البيروقراطي، وتزايد المنافسة العالمية. وبينما تعاني الشركات الكبرى من خسائر في الداخل وتلجأ إلى الأسواق الخارجية لتعويضها، يقف الاقتصاد الألماني أمام تحدٍّ استراتيجي: إما إعادة هيكلة الصناعات الكيماوية وضمان تنافسيتها، أو مواجهة تراجع طويل الأمد في أحد أعمدة قوته الاقتصادية.

 

 

تحسن في قطاع البناء مع استمرار الاختلالات الهيكلية

     شهد قطاع البناء في ألمانيا تطورًا لافتًا في النصف الأول من عام 2025م، تمثل في ارتفاع عدد تراخيص البناء بعد فترة طويلة من التراجع الحاد. فبحسب بيانات مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني، منحت السلطات نحو 110 آلاف ترخيص لبناء وحدات سكنية جديدة، أي بزيادة قدرها 2,9 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024م، الذي كان قد سجّل أدنى مستوى منذ عام 2010م. هذا التحسن الطفيف في الأرقام يحمل دلالات متناقضة، فمن جهة يعكس بداية عودة النشاط إلى السوق، ومن جهة أخرى يكشف محدودية تأثيره في معالجة أزمة الإسكان العميقة التي تعاني منها البلاد.

     الزيادة الأكبر في التراخيص برزت في شهر يونيو، حيث تمت الموافقة على 19 ألف وحدة سكنية جديدة، أي بزيادة قدرها 7,9 في المئة عن الشهر نفسه من العام الماضي.  ورغم أن هذه الأرقام تبدو مشجعة، فإنها لا تعكس بالضرورة طفرة شاملة في جميع أنماط البناء. بل يتضح من توزيعها أن الزيادة جاءت بشكل شبه كامل من بناء المنازل الفردية، إذ ارتفع عدد تراخيصها بنسبة 14,1 في المئة ليصل إلى 21,300 وحدة. في المقابل، تراجعت تراخيص المنازل الثنائية بنسبة 8,3 في المئة إلى 6,000 وحدة، بينما لم تشهد تراخيص المباني متعددة الأسر، وهي الأكثر أهمية لمعالجة أزمة السكن، سوى تغير طفيف للغاية بلغ 0,1 في المئة فقط مقارنة بالعام السابق، لتصل إلى 57,300 وحدة. وهذا يعني أن زيادة تراخيص البناء التي تمت في النصف الأول من العام الحالي لا تساهم عمليًا في تقليص فجوة العرض والطلب في المدن الكبرى، حيث يتركز العجز في المساكن.

     وبالرغم مما تعكسه التراخيص من توجهات مستقبلية، إلا أن الواقع يفرض معادلة أكثر تعقيدًا. فبين الحصول على الترخيص والانتهاء من البناء قد تمر عدة سنوات، وفي كثير من الحالات لا يتم تنفيذ المشاريع أصلًا. ففي عام 2024م مثلًا، لم يُنجز سوى 251,900 وحدة سكنية، وهو أدنى مستوى منذ 2015م. كما أن المدة الزمنية بين الترخيص والتشييد الفعلي ارتفعت بمعدل ستة أشهر إضافية منذ 2020م، لتصل إلى متوسط 26 شهرًا. هذه المعطيات تفسر لماذا لا يؤدي ارتفاع التراخيص بالضرورة إلى انفراج سريع في أزمة السكن.

     من جانبها أعلنت الحكومة الألمانية الجديدة، عما تسميه “توربو البناء”، وهو برنامج يهدف إلى تسريع إجراءات الترخيص عبر منح البلديات صلاحيات أوسع في تجاوز خطط البناء التقليدية، مما يتيح البناء السريع وإعادة الاستخدام والتوسعة الرأسية. لكن خبراء مجموعة (Euroconstruct) التي يشارك فيها معهد ifo في ميونيخ، يتوقعون أن يظل تأثير هذه الإجراءات محدودًا على المدى القريب، حيث تشير تقديراتهم إلى أن عدد الوحدات السكنية التي ستُنجز هذا العام لن يتجاوز 205,000 وحدة، أي بانخفاض قدره 19 في المئة مقارنة بعام 2024م. وبذلك تكون البداية مع الحكومة الجديدة أضعف حتى مما كان عليه الوضع في عهد الحكومة السابقة التي لم تستطع انجاز هدفها المعلن ببناء 400,000 وحدة سنويًا.

     من جانب آخر اظهر استطلاع للرأي أجراه اتحاد جمعيات الادخار العقاري الخاصة، انه لم يعد سوى 33 في المئة من الألمان يرون في امتلاك مسكن هدفًا للادخار، أي بانخفاض قدره 10 نقاط مئوية عن العام الماضي.  ويتركز هذا التراجع خاصة بين الفئات الشابة ومتوسطي العمر، الذين يرون أن امتلاك منزل بات حلمًا بعيد المنال في ظل ارتفاع الأسعار وتكاليف البناء.  واعتبر المدير التنفيذي للاتحاد، كريستيان كونيغ، أن هذه الظاهرة تشكل “إشارة إنذار سياسي واجتماعي”، لأنها تمثل تراجعًا عن ركيزة أساسية من ركائز الأمن الاجتماعي الخاص.

     ويمكن القول إن بيانات النصف الأول من عام 2025م، لا تقدم سوى بارقة أمل محدودة في سوق الإسكان الألماني. صحيح أن عدد التراخيص ارتفع مقارنة بالعام الماضي، لكن طبيعة هذه الزيادة تكشف عن اختلال هيكلي، إذ إنها تتركز في المنازل الفردية بينما الأزمة الفعلية تتمثل في شح الشقق السكنية في المدن. أضف إلى ذلك أن الفارق الزمني بين الترخيص والتنفيذ، إلى جانب معوقات البيروقراطية وتكاليف التمويل، تجعل أثر هذه الزيادة بطيئًا وربما غير ملموس في المدى القريب. أما على المستوى السياسي، فإن الحكومة الجديدة تحاول تقديم صورة حازمة من خلال وعود “توربو البناء”، لكن المعطيات الواقعية والتوقعات البحثية تشير إلى استمرار التراجع في عدد الوحدات المكتملة. ومع غياب أهداف كمية واضحة، على عكس الحكومة السابقة، تظل قدرة التحالف الجديد على مواجهة أزمة الإسكان موضع شك. من زاوية اجتماعية، فإن تراجع رغبة الألمان في تملك المساكن يعكس تحوّلًا ثقافيًا قد تكون له انعكاسات طويلة الأمد على بنية المجتمع. ففقدان الثقة في إمكانية تحقيق حلم “البيت الخاص” يهدد بإضعاف إحدى ركائز الطبقة الوسطى الألمانية، ويزيد من هشاشة الفئات الأقل قدرة ماديًا في مواجهة تقلبات سوق الإيجارات.

     تكشف التطورات الأخيرة أن أزمة الإسكان في ألمانيا ليست مجرد مسألة إحصاءات شهرية أو نسب تراخيص جديدة، بل هي مشكلة بنيوية تعكس اختلال التوازن بين العرض والطلب، وتباطؤ الاستجابة السياسية، وارتفاع تكاليف البناء والتمويل. وإذا لم تُعالج هذه التحديات بشكل متكامل، فإن أزمة السكن مرشحة للاستمرار وربما التفاقم، مما يضع ضغوطًا إضافية على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.