انخفض مؤشر مناخ الاعمال للشركات الألمانية ifo في شهر ديسمبر مجدداً إلى 87.6 نقطة، مقارنة بـ 88 نقطة في نوفمبر. ويرجع هذا الانخفاض الجديد الى التوقعات المتشائمة للشركات الألمانية حول مستوى الاعمال خلال النصف الأول من العام 2026م، في حين بقي تقييمها للوضع الحالي للأعمال دون تغيير. وهكذا ينتهي العام 2025م، من دون بوادر حقيقية على تحسن الأوضاع الاقتصادية وخروج الاقتصاد الألماني من حالة الركود.
في قطاع الصناعة، تراجع مؤشر الاعمال في ديسمبر الى مستوى ( -14.8 نقطة) بعد ان كان عند مستوى ( -13.8 نقطة) في نوفمبر السابق، وقد شمل هذا التراجع جميع القطاعات تقريباً. ويعود هذا التطور بالدرجة الأولى إلى تدهور التوقعات حول تطور الاعمال خلال الفترة القادمة. أما تقييم الوضع الراهن لأعمال القطاع فقد تحسن بشكل طفيف، لكنه ظل عند مستوى منخفض. كما انخفض عدد الطلبات الجديدة، وهو ما دفع الشركات للتخطيط لخفض وتيرة الإنتاج.
كذلك تراجع مؤشر الاعمال في قطاع الخدمات مرة أخرى ليسجل في شهر ديسمبر مستوى ( -2.1 نقطة) مقابل مستوى (0.6 نقطة) في نوفمبر. إذ أبدت شركات قطاع الخدمات عدم رضاها عن الأداء الحالي، إلى جانب انخفاض توقعاتها لمستوى الاعمال للفترة المقبلة. وتدهورت أوضاع الأعمال في معظم فروع قطاع الخدمات، باستثناء قطاع المطاعم، الذي سجل أداءً قوياً للغاية خلال شهر ديسمبر.
أما في قطاع التجارة، فقد تراجع المؤشر أيضاً خلال ديسمبر مسجلا مستوى ( -24.6 نقطة)، فيما كان عند مستوى ( -22.6 نقطة) في نوفمبر، حيث خفضت شركات القطاع من تقييمها للوضع الحالي لأعمالها، كما بدت التوقعات للنصف الأول من العام المقبل قاتمة. وأعربت شركات قطاع تجارة التجزئة عن عدم رضاها عن مبيعات موسم أعياد الميلاد.
وفي قطاع البناء، ظل مناخ الأعمال في ديسمبر عند مستوى منخفض (- 15.2 نقطة) دون تغيير. فمن جهة، قيّمت الشركات وضعها الحالي على أنه أسوأ، ومن جهة أخرى أبدت قدراً أقل من التشاؤم حيال مستوى الاعمال المتوقع في الأشهر المقبلة.
من جانب أخر تشير أحدث التوقعات الصادرة عن عدد من أبرز معاهد البحوث الاقتصادية في ألمانيا إلى تراجع واضح في الآمال المتعلقة بحدوث انتعاش اقتصادي ملموس خلال عام 2026م، إذ قامت معظم المؤسسات الاقتصادية بخفض توقعاتها للنمو، في ظل استمرار التباطؤ العميق في القطاع الصناعي وتفاقم المشكلات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد الألماني. فقد خفّض معهد Ifo توقعه لنمو الناتج المحلي الإجمالي في 2026م، إلى 0.8 في المئة فقط بعد أن كان يتوقع 1.3 في المئة قبل أشهر قليلة، كما قلّص توقعاته للنمو في العام 2027م، من 1.6 إلى 1.1 في المئة. وسار معهد الاقتصاد العالمي في كيل (IfW ) ومعهد الأبحاث الاقتصادية في ايسن (RWI)، في الاتجاه نفسه، حيث يتوقع كلاهما نمواً لا يتجاوز واحداً في المئة خلال 2026م، بينما رفع معهد الأبحاث الاقتصادية في هاله (IWH)، تقديراته بشكل طفيف إلى واحد في المئة، لكنه أوضح أن هذه الزيادة لا تعكس تحسناً حقيقياً في البنية الاقتصادية، بل تعديلاً في تقديراته السابقة للاستهلاك الخاص. أما بالنسبة لعام 2025م، فتجمع التقديرات على أن النمو سيكون هامشياً لا يتجاوز 0.1 إلى 0.2 في المئة.
وتعود الأسباب الرئيسية لهذا التراجع في توقعات النمو إلى ضعف الاستثمارات الخاصة التي لا تزال غير قادرة على تعويض الانكماش في أجزاء من القطاع الصناعي. ورغم توقع ارتفاع الاستثمارات في المعدات والآلات خلال السنوات المقبلة بنسبة ثلاثة في المئة، فإنها ستظل أقل بنحو سبعة في المئة من مستويات عام 2019، وهو ما وصفه Clemens Fuest، رئيس معهد Ifo بأنه تآكل في الطاقة الإنتاجية يعكس عمق التحديات التي يواجها الاقتصاد الألماني.
ويضاف إلى هذه العوامل اتساع دور القطاع العام مقابل تراجع القطاع الخاص، إذ تشير تقديرات معهد RWI إلى أن الاستهلاك الحكومي سيزداد بنحو اثنين في المئة سنوياً بين 2025 و2027م، مدفوعاً بارتفاع الإنفاق الصحي نتيجة التحولات الديموغرافية، وزيادة الإنفاق العسكري، وتوسع أعداد الموظفين في الإدارات الحكومية. وفي المقابل، لا يتجاوز نمو الاستهلاك الخاص واحداً في المئة رغم ارتفاع الأجور. كما فقد القطاع الصناعي نحو 170 ألف وظيفة خلال عام واحد، معظمها من العمالة عالية الإنتاجية، بينما يتركز النمو في الوظائف الحكومية الأقل إنتاجية نسبياً، الأمر الذي يعمّق الاختلالات في سوق العمل ويزيد الأعباء الضريبية على الاقتصاد.
ورغم الصورة السلبية، لا تزال التوقعات تشير إلى نمو يقارب واحداً في المئة خلال 2026م، غير أن هذا النمو لا يعكس تحسناً فعلياً في النشاط الاقتصادي، بل يعتمد إلى حد كبير على عوامل استثنائية. فزيادة الإنفاق الحكومي على الدفاع والبنى التحتية تمثل الجزء الأكبر من الزيادة المتوقعة، بينما تشكل الزيادة في عدد أيام العمل مقارنة بعام 2025م، ما يقارب 0.3 نقطة مئوية من النمو. وتؤكد المعاهد أن هذه العوامل لا تمثل نمواً ذاتياً مستداماً، وأن الاقتصاد الألماني لا يزال بحاجة إلى إصلاحات هيكلية عميقة تعيد إليه قدرته على جذب الاستثمارات الخاصة وتحسين تنافسيته الصناعية. وتبقى توقعات عام 2027م، خاضعة إلى حد كبير للعوامل نفسها، ما يشير إلى أن مسار التعافي ما زال بعيداً وأن الاقتصاد سيظل يعتمد بدرجة كبيرة على الإنفاق الحكومي بدلاً من ديناميكية القطاع الخاص.
من جانبه يرى صندوق النقد الدولي (IWF )، أن الإصلاحات التي أجرتها ألمانيا على قيد الديون (Schuldenbremse)، تمثل فرصة حقيقية لدفع النمو الاقتصادي بعد سنوات من الأداء الضعيف. فهذه التعديلات، التي تهدف إلى توسيع مساحة الإنفاق الحكومي وزيادته خصوصاً في مجالات البنية التحتية وتسليح الجيش الألماني (Bundeswehr)، يعتبرها الصندوق خطوة متأخرة لكنها مهمة وستفتح الباب أمام عودة النمو بوتيرة أسرع خلال الأعوام المقبلة. ويشير الصندوق إلى أن هذه الأموال الإضافية يجب استخدامها بطريقة مدروسة تعزز إنتاجية الاقتصاد، وأنها بحاجة إلى أن تُرافق بإصلاحات هيكلية حتى تحقق أهدافها. فرغم أن ألمانيا خرجت للتو من عامين متتاليين من الركود، فإن توقعات الصندوق تشير إلى نمو ضعيف قدره 0.2 في المئة في عام 2025م، لكنه قد يتحسن إلى نحو 1 في المئة في 2026م، و1.5 في المئة في 2027م. هذه الأرقام تعكس إمكانية التحسن، لكنها تبقى مشروطة بالاستخدام الكفء للموارد العامة.
ورغم الإشادة بالإصلاحات التي تقوم بها الحكومة الألمانية، يحذر صندوق النقد الدولي من مخاطر محتملة قد تعيق أثرها الإيجابي. ومن الأمثلة التي ينتقدها الصندوق خفض ضريبة القيمة المضافة على الوجبات الغذائية في المطاعم، والتي يرى أنها خطوة لا تحقق نمواً إنتاجياً وإنما تزيد العبء على الموازنة. ويشدد التقرير على أن السياسات الاقتصادية يجب أن تركز على ما يعزز النمو طويل الأجل بدلاً من تكثيف الإنفاق غير المنتج، خصوصاً في ظل تباطؤ النمو السكاني وتراجع الإنتاجية. ويرى الصندوق أن على الحكومة الألمانية أن تتجه بقوة نحو تسريع التحول الرقمي، وخلق المزيد من الحوافز للشركات الناشئة، وتشجيع الابتكارات، إضافة إلى تخفيف البيروقراطية التي تشكل أحد أكبر العوائق أمام النشاط الاقتصادي. كما يدعو إلى دمج أكبر للنساء وكبار السن واللاجئين في سوق العمل لتوسيع قاعدة القوى العاملة وتخفيف أثر الشيخوخة السكانية.
ويتوقع الصندوق أن تؤدي الزيادة في الإنفاق الحكومي التي أقرتها الحكومة الاتحادية إلى وصول العجز في 2027م إلى نحو 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى يتجاوز ما تسمح به القواعد الأوروبية. كما يتوقع وصول الدين العام إلى نحو 68 في المئة من حجم الاقتصاد، وهي نسبة تبقى منخفضة نسبياً مقارنة بالاقتصادات الصناعية الكبرى، لكنها تتطلب يقظة مالية.
سوق العمل: استمرار انخفاض البطالة و150 ألف عدد العمالة المؤهلة الناقصة في تخصصات الرياضيات والفيزياء
مع انتهاء التحسن الموسمي المرتبط بفصل الخريف، أظهرت بيانات وكالة العمل الاتحادية (BA)، تراجع عدد العاطلين عن العمل في نوفمبر 2025م، بمقدار 26 ألفًا ليصل إلى 2,885,000 شخص. كما تراجع معدل البطالة بمقدار 0,1 نقطة مئوية ليبلغ 6,1 في المئة. وعلى أساس سنوي، لا يزال عدد العاطلين أعلى بـ 111 ألفًا مقارنة بنوفمبر من العام الماضي، فيما ارتفع معدل البطالة بـ 0.2 نقطة مئوية عن الفترة نفسها.
وعلقت Andrea Nahles، رئيسة مجلس إدارة وكالة العمل الاتحادية (BA)، على بيانات سوق العمل في شهر نوفمبر بالقول “إن ضعف الأداء الاقتصادي ما يزال مستمرًا، وسوق العمل يفتقر إلى الزخم اللازم. فالبطالة سجّلت انخفاضًا طفيفًا في نوفمبر وفق النمط الموسمي المعتاد، في حين ظلت أعداد العاملين دون تغيير ملموس، واستمرت مستويات الطلب على العمالة منخفضة.”
اما في جانب العمل بدوام جزئي فقد تم خلال الفترة بين 1 و24 نوفمبر تسجيل نحو 34,000 عامل وموظف جديد في البرنامج. وتشير أحدث البيانات المتعلقة بالعدد الإجمالي للمسجلين في البرنامج في سبتمبر 2025م، الى انه وصل الى حوالي 209,000 عامل وموظف. وهذا العدد يزيد بـ 37,000 عن الشهر السابق. وفيما يتعلق بعدد الوظائف الشاغرة المسجلة في وكالة العمل الاتحادية في نوفمبر 2025م، فقد بلغ ما يقرب من 624,000 وظيفة شاغرة، أي أقل بـ 44,000 وظيفة مقارنة بالعام الماضي.
من جانب أخر، اظهر تقرير صادر عن معهد الاقتصاد الألماني في كولونيا (IW)، أن النقص في عدد العاملين المتخصصين في الرياضيات وتكنولوجيا المعلومات والعلوم الطبيعية والهندسة، المعروفة اختصارًا بتخصصات MINT، ما يزال يمثّل تحديًا كبيرًا لسوق العمل في ألمانيا رغم التباطؤ الاقتصادي الذي تعيشه البلاد خلال السنوات الأخيرة. ويؤكد التقرير أن النقص في هذه المهارات لم يتم تجاوزه بعد، وأنه ما مؤثراً بشكل مباشر على قدرة الاقتصاد الألماني على الابتكار ودعم الاستثمارات.
ويعرض التقرير صورة مفصلة عن حجم الطلب على خبرات MINT، حيث تشير الأرقام إلى أن الفجوة ما تزال كبيرة رغم انخفاضها مقارنة بالأعوام السابقة. ففي أكتوبر 2025م، بلغ النقص في القوى العاملة نحو 148,500 شخص، وهو رقم أقل من مستوى مايو الذي بلغ 163,600 وظيفة شاغرة، وأدنى بكثير من بيانات أكتوبر 2024م، التي وصلت إلى 205,800 وظيفة غير مشغولة. ومع ذلك، فإنه رقم يعكس استمرار مشكلة هيكلية في قطاعات تعتمد عليها الصناعات الألمانية اعتمادًا كبيرًا. وتظهر البيانات أن أكبر النواقص تتركز في قطاعات الطاقة والأعمال الكهربائية بنحو 53,100 وظيفة شاغرة، يليها قطاع صناعة الآلات والمعدات وتقنيات المركبات بـ 30,000 وظيفة، ثم قطاع معالجة المعادن بـ 28,900 وظيفة، وقطاع البناء بـ 25,300 وظيفة. ويثير هذا النقص مخاوف من تباطؤ مشاريع التحول الصناعي وتأخير استثمارات ضرورية في البنية التحتية والتقنيات الحديثة.
ويبرز التقرير دور الهجرة المنظمة، وخصوصًا عبر القنوات الأكاديمية، في محاولة سد هذه الفجوة. إذ يشير معدّو الدراسة إلى أن الطلبة غير الألمان الذين يدرسون تخصصات MINT في الجامعات الألمانية يلعبون دورًا متناميًا في دعم القدرة الابتكارية للاقتصاد. وخلال عام 2022م وحده، دخل نحو 153 ألف طالب غير ألماني بهدف الدراسة في ألمانيا، وأسهموا بما يقارب 14.6 مليار يورو في القيمة الاقتصادية المضافة. وتوضح دراسات موازية أن الابتكار يستفيد مباشرة من الهجرة، حيث تعود واحدة من كل سبع براءات اختراع في ألمانيا إلى مبتكرين من أصول مهاجرة، ما يؤكد أن جذب الكفاءات من الخارج أصبح عنصرًا أساسيًا في الحفاظ على القوة التكنولوجية للبلاد وسط التنافس العالمي المتزايد.
ولتحسين قدرة ألمانيا على جذب الأفراد المؤهلين، يقدم التقرير مجموعة من المقترحات التي يمكن أن تعزز جاذبية البلاد للمواهب الدولية. من بين هذه المقترحات تأمين الطاقة الاستيعابية للجامعات وتوسيعها بما يسمح بقبول المزيد من الطلبة غير الألمان، بالإضافة إلى تسريع إجراءات التأشيرات لتقليل الوقت الذي يستغرقه الطالب للوصول إلى ألمانيا وبدء دراسته. كما يوصي القائمون على التقرير بزيادة برامج اللغة المصاحبة للدراسة لتسهيل اندماج الطلبة داخل المجتمع وسوق العمل، مع ضرورة تعزيز ثقافة مجتمعية ترحّب بالوافدين وتوفر بيئة تشجعهم على البقاء بعد التخرج.
حوالي 400 مليار يورو كلفة تطوير البنية التحية لقطاع النقل في ألمانيا حتى العام 2030م
أشارت دراسة جديدة أعدّتها مؤسستا “Agora Verkehrswende” و“Dezernat Zukunft” إلى حجم هائل من الاحتياجات المالية العامة اللازمة لقطاع النقل في ألمانيا خلال السنوات المقبلة، حيث تقدر الحاجة إلى نحو 390 مليار يورو حتى عام 2030م. هذا الرقم الضخم يعكس حجم التحديات التي تواجه البنية التحتية للنقل وقطاع السيارات في البلاد، ويطرح تساؤلات جوهرية حول كيفية تأمين هذه المبالغ وتوزيع أعبائها.
وبحسب الدراسة، فإن جزءاً كبيراً من هذه الأموال، أكثر من النصف بقليل، يجب أن يقع تحت مسؤولية الحكومة الاتحادية، لأنه يتعلق بالبنى التحتية التابعة للدولة ودعم عملية التحول في صناعة السيارات. وتشير التقديرات إلى أن السكك الحديدية وحدها تحتاج إلى نحو 146 مليار يورو حتى عام 2030م، بينما تتطلب الطرق السريعة 38.2 مليار يورو. أما النقل العام المحلي، والذي يشمل الحافلات والقطارات داخل المدن، فيحتاج وفق الدراسة إلى أكثر من 181 مليار يورو، وهو ما يعكس الأهمية المتزايدة لهذا القطاع في ظل التحول نحو أنماط نقل أكثر استدامة وتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة.
وتأتي هذه الأرقام في سياق نقاش متصاعد في ألمانيا حول تدهور الكثير من البنية التحتية للنقل، حيث يحذر الخبراء منذ سنوات من أن عدداً كبيراً من الجسور والطرق السريعة والسكك الحديدية في حالة حرجة وتحتاج إلى استبدال أو صيانة عاجلة. فالتقارير المتخصصة تتحدث عن جسور مهددة بالإغلاق وشبكات سكك تعاني من تقادم واضح، ما يتسبب في تأخير القطارات وارتفاع تكاليف الصيانة الدورية، إضافة إلى تأثيرات سلبية على الاقتصاد وحركة التجارة داخلياً وخارجياً.
وفي تعليقها على نتائج الدراسة، قالت Wiebke Zimmer، نائبة مدير مؤسسة “Agora Verkehrswende”، إن الوقت قد حان لإحداث قفزة نوعية في تمويل منظومة النقل. وأشارت إلى أن صندوق الحكومة الاتحادية المخصص للبنية التحتية والحياد المناخي يمثل خطوة أولى مهمة، لكنه بعيد كل البعد عن أن يكون كافياً لتأهيل منظومة النقل في ألمانيا لتواجه متطلبات المستقبل. وأضافت أن تحديث السكك والطرق والجسور ووسائل النقل العام يتطلب رؤية تمويلية طويلة المدى لا تعتمد فقط على الموارد التقليدية.
وتقترح الدراسة عدداً من خيارات التمويل المثيرة للجدل، من بينها إدخال إصلاحات ضريبية وزيادة الاعتماد على القروض، إلى جانب طرح فكرة قديمة جديدة تتمثل في فرض رسوم مرور على السيارات الخاصة (Pkw-Maut). وترى Vera Huwe، من مؤسسة “Dezernat Zukunft” أن فرض رسوم عادلة على مستخدمي السيارات يمكن أن يساعد في ضمان تمويل البنية التحتية بعيداً عن التقلبات المالية في الميزانية العامة، كما يسهم في توزيع أكثر عدلاً لتكاليف استخدام الطرق بحيث يتحمل كل مستخدم كلفته الحقيقية.
وتطرح الدراسة أيضاً خياراً آخر يتوقع أن يثير جدلاً واسعاً، وهو فرض مساهمات مالية للنقل العام (ÖPNV-Beiträge) على جميع السكان أو الشركات، بغض النظر عن مدى استخدامهم الفعلي للحافلات والقطارات. ويستند هذا الاقتراح إلى فكرة أن المجتمع بأكمله يستفيد من وجود شبكة نقل عام قوية ومنتظمة تساهم في خفض الازدحام المروري والانبعاثات وتدعم فعالية الحركة الاقتصادية. وترى الدراسة أن هذه الرسوم يمكن أن تطبّق على مستوى اتحادي مع إمكانية اختلاف قيمتها بين المناطق بناءً على قدرات ومزايا كل منطقة.
ويؤكد معدّو الدراسة أن الفوائد غير المباشرة للنقل العام، مثل تحسين جودة الحياة وتقليل الوقت الضائع في الازدحام وتحسين الربط بين مراكز الإنتاج والعمل، تجعل من المنطقي إشراك الجهات المستفيدة، سواء كانت سكاناً أو شركات، في تمويله بشكل مستدام. ومع ذلك، يبقى هذا المقترح حساساً سياسياً واجتماعياً، خصوصاً في ظل الضغوط المعيشية وارتفاع تكاليف النقل بالفعل في بعض المناطق، حيث شهدت بعض المدن زيادات ملحوظة في أسعار تذاكر الحافلات والقطارات خلال السنوات الأخيرة.
تحول في أهم أسواق الصادرات الألمانية
تشير بيانات حديثة إلى تحوّل لافت في خريطة الصادرات الألمانية، إذ من المتوقع أن تخرج الصين هذا العام، وللمرة الأولى منذ عام 2010م، من قائمة أهم خمسة أسواق تصدير للسلع الألمانية. ويعكس هذا التطور تباطؤ الطلب في السوق الصينية الداخلية، وهو ما بدأ يترك آثاراً واضحة على أداء المصدّرين الألمان، في وقت تسجل فيه الصادرات إلى دول الاتحاد الأوروبي المجاورة نمواً ملحوظاً.
وبحسب توقعات صادرة عن هيئة الترويج الاقتصادي الألمانية المملوكة للدولة (Germany Trade & Invest – GTAI)، من المنتظر أن تتراجع الصادرات الألمانية إلى الصين بنسبة عشرة في المئة لتصل إلى نحو 81 مليار يورو. وبهذا التراجع، تهبط الصين إلى المرتبة السابعة ضمن أهم وجهات الصادرات الألمانية، بعد أن كانت في المرتبة الخامسة خلال العام الماضي، متجاوزةً من قبل كل من بريطانيا وإيطاليا.
وتفسر Christina Otte، الخبيرة في GTAI ، هذا التراجع بعاملين رئيسيين، أولهما ضعف الطلب في السوق الصينية الداخلية، وثانيهما أن عدداً متزايداً من الشركات الألمانية بات يفضّل الإنتاج داخل الصين نفسها بدلاً من تصدير السلع إليها. ونتيجة لذلك، من المتوقع أن تنخفض حصة الصين من إجمالي الصادرات الألمانية إلى نحو 5.2 في المئة هذا العام، مقارنةً بحوالي 7.5 في المئة في عام 2021م.
ولا تقتصر التحديات أمام الصادرات الألمانية على الصين وحدها. فوفقاً للتقديرات ذاتها، يُتوقع أن تتراجع الصادرات إلى الولايات المتحدة بنسبة 7.3 في المئة لتصل إلى ما يقارب 150 مليار يورو. ومع ذلك، تظل الولايات المتحدة السوق الأهم للسلع الألمانية بفارق واضح، متقدمةً على فرنسا التي سجلت الصادرات إليها نمواً بنسبة 1.2 في المئة لتبلغ 116.5 مليار يورو، ثم هولندا بزيادة قدرها 2.6 في المئة إلى 112.1 مليار يورو، وبولندا التي حققت نمواً لافتاً بنسبة 5.8 في المئة لتصل الصادرات إليها إلى 98.9 مليار يورو.
وحذر Roland Rohde، ممثل GTAI في واشنطن، من أن الاتجاه التراجعي في الصادرات إلى الولايات المتحدة قد يتسارع حتى نهاية العام. وأوضح أن العديد من الشركات سارعت في الأشهر الأولى من العام إلى تقديم شحناتها قبل فرض الرسوم الجمركية الأميركية، ما يعني أن التراجع الإجمالي قد يصل إلى ما بين ثمانية وتسعة في المئة. كما توقع أن تستمر الخسائر في السوق الأميركية خلال عام 2026م، وإن كانت بوتيرة أبطأ مقارنة بعام 2025م.
وعلى مستوى التجارة الخارجية ككل، تشير التقديرات إلى أن الصادرات الألمانية ستسجل نمواً طفيفاً لا يتجاوز 0.6 في المئة هذا العام، لتصل إلى نحو 1.6 تريليون يورو. وبذلك، تبقى الصادرات للعام الثالث على التوالي عند مستوى قريب من عام 2022م، الذي أعقب جائحة كورونا، في مؤشر على ضعف زخم التصدير. كما تبدو آفاق عام 2026م محدودة، وفق تقييم خبراء GTAI.
في المقابل، يُتوقع أن ترتفع الواردات الألمانية بنسبة 4.4 في المئة لتصل إلى نحو 1.4 تريليون يورو، وهو معدل أعلى بكثير من نمو الصادرات. ونتيجة لذلك، سيتراجع فائض الميزان التجاري إلى نحو 195.4 مليار يورو، وهو أدنى مستوى يُسجل، باستثناء سنوات جائحة كورونا بين 2020 و2022م، منذ عام 2012م.
وعلى الرغم من تحقيق ألمانيا فوائض تجارية كبيرة مع معظم شركائها التجاريين الرئيسيين، تبقى الصين الاستثناء الأبرز. إذ من المتوقع أن يرتفع العجز التجاري مع الصين إلى مستوى قياسي يبلغ 87 مليار يورو. وتشير التقديرات إلى أن الواردات من الصين ستنمو بأكثر من سبعة في المئة لتصل إلى نحو 168 مليار يورو، ما يعني أن حوالي 12 في المئة من إجمالي واردات ألمانيا ستأتي من السوق الصينية.
وترى Christina Otte، أن هذه التطورات تكشف أن مسار تقليل المخاطر المرتبطة بالاعتماد على الصين في جانب الواردات يسير ببطء شديد. فبعد أن تراجعت حصة الصين من إجمالي الواردات الألمانية بشكل طفيف في العامين الماضيين، عادت هذه الحصة إلى الارتفاع مجدداً، ما يعكس استمرار الاعتماد القوي على الصين كمورد رئيسي، رغم الجهود المعلنة لتنويع سلاسل التوريد وتقليل المخاطر الجيوسياسية.
الاستثمارات في الشركات الناشئة في أوروبا أقل من نظيرتها في الولايات المتحدة
أظهر التقرير السنوي الجديد الصادر عن صندوق رأس المال المخاطر «Atomico»، اتساع الفجوة الاستثمارية بين أوروبا والولايات المتحدة، إذ تواصل الشركات الناشئة الأمريكية جذب تمويلات ضخمة، بينما تشهد نظيراتها الأوروبية نمواً محدوداً يكاد يراوح مكانه. هذا التفاوت بلغ مستوى غير مسبوق وفق التقرير وقد تضمن أرقاماً تظهر حجم التراجع النسبي للقارة الأوروبية في سباق الابتكار. ففي الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي 2025م، استقبلت شركات التكنولوجيا الناشئة في الولايات المتحدة 177 مليار دولار من رؤوس الأموال الاستثمارية، أي ما يقرب من ضعف ما حصلت عليه في الفترة نفسها من العام السابق، وهو مستوى يقترب من ذروة عام 2021م. وفي المقابل، لم تتجاوز الاستثمارات الموجهة إلى الشركات الناشئة الأوروبية 33 مليار دولار خلال الفترة نفسها، رغم بعض جولات التمويل الكبيرة، من بينها مليار دولار تقريباً لشركة الذكاء الاصطناعي البريطانية «Nscale» و660 مليون دولار لشركة «Helsing» الألمانية المتخصصة في تكنولوجيا الدفاع. ومع ذلك، فإن هذه الأرقام لا تقارن بما حصلت عليه شركات أمريكية مثل «OpenAI» التي جمعت 40 مليار دولار في مارس من العام الحالي، أو شركة «Anduril» الدفاعية التي حصلت على 2.5 مليار دولار في يونيو الماضي.
ويُتوقع أن يصل إجمالي الاستثمارات الأوروبية بحلول نهاية العام إلى نحو 44 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة طفيفة مقارنة بالعامين الماضيين، لكنه يظل أقل بكثير من مستويات 2021م و2022م، حين دفعت جائحة كورونا المستثمرين لضخ أموال هائلة في قطاع التكنولوجيا مع توفر رأس مال رخيص بفضل أسعار الفائدة المنخفضة. ويرى واضعو التقرير أن هذا النمو الضعيف يمثل عودة متواضعة فقط إلى المسار الإيجابي، دون أن يغير الصورة العامة لتباطؤ نمو الاستثمارات في أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة.
لكن الوضع يبدو أفضل نسبيًا في ألمانيا، إذ يُتوقع أن تحصل الشركات الناشئة التقنية على 7.4 مليارات دولار هذا العام، بزيادة تفوق 10 في المئة عن عام 2024م. ويرتبط جانب مهم من هذا التحسن بظهور شركات جديدة صنّفت كـ«يونيكورن» (وهي الشركات التي تتجاوز قيمتها مليار دولار)، من بينها شركات الذكاء الاصطناعي «Parloa» و«N8N»، وشركة انتاج وتطوير الطائرات المسيّرة «Quantum Systems»، وشركة الحوسبة الكمية «IQM». وعلى مستوى أوروبا ككل، بلغ عدد الشركات التي تحولت إلى «يونيكورن» هذا العام 28 شركة، وهو أعلى مستوى منذ عام 2022م.
وبرغم هذه المؤشرات الإيجابية المحدودة، يحذر الخبراء من أن أوروبا تقف عند «نقطة تحول» حاسمة. فإلى جانب تباطؤ الاستثمارات، تواجه القارة تحديات تتعلق بهجرة الشركات الناشئة نحو الولايات المتحدة، وصعوبات كبيرة لدى صناديق الاستثمار الأوروبية في جمع التمويل. ويشير التقرير إلى وجود عوائق بنيوية تحد من قدرة أوروبا على المنافسة، أبرزها تعدد اللوائح التنظيمية بين دول القارة، وتعقيد القوانين الضريبية، وضعف عمق أسواق رأس المال الأوروبية مقارنة بنظيراتها الأمريكية. ويرى المشاركون في الدراسة أنّ سيولة الأسواق الأوروبية غير كافية لجذب الطروحات الأولية الكبرى، ما يدفع الشركات الواعدة إلى الإدراج في بورصات مثل «ناسداك» بدلاً من فرانكفورت أو لندن أو أمستردام.
هذا التوجه انعكس بوضوح في العام الحالي، حيث تحققت أربع طروحات أولية أوروبية فقط بقيمة تتجاوز مليار دولار، مقابل عشرة طروحات أمريكية. كما استحوذت أسواق الولايات المتحدة على أكثر من 80 في المئة من القيمة الإجمالية التي شهدها العالم من خلال عمليات الإدراج والاندماج والاستحواذ. ويبرز مثال شركة «Klarna» السويدية التي طرحت أسهمها هذا العام في «وول ستريت» في أكبر إدراج لشركة أوروبية عام 2025م، بقيمة 17 مليار دولار. هذه الديناميكية جعلت المستثمرين الأمريكيين يحصلون على عوائد أعلى، ما شجعهم على إعادة ضخ الأموال في الصناديق الجديدة، بينما تسود حالة من الحذر لدى المستثمرين الأوروبيين. فقد تمكنت صناديق رأس المال الأوروبية خلال النصف الأول من العام من جمع 6.4 مليارات دولار فقط، مقارنة بـ 11.1 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام السابق. وفي ألمانيا، تظهر أرقام منصة «Pitchbook» انخفاضاً مماثلاً، إذ تشير التوقعات إلى أن صناديق رأس المال المخاطر ستجمع هذا العام نحو ملياري يورو فقط، مقارنة بثلاثة مليارات يورو في العام الماضي.
ورغم كل هذا، يبقى الأمل قائماً. فالتقرير يشير إلى وجود ما لا يقل عن ثماني شركات أوروبية مرشحة لطرح أسهمها قريبًا، منها منصة «Bolt» الإستونية المنافسة لـ«أوبر»، ومنصة الملابس المستعملة «Vinted» الليتوانية، وشركة التكنولوجيا المالية «Revolut». إلا أن مكان إدراجها لا يزال غير محسوم، إذ تفكر «Revolut» مثلاً في الإدراج في كل من الولايات المتحدة ولندن.